باستثناء إشارات عابرة في تصريحات سياسية، أمريكية وإسرائيلية، إلى دور إيران في توسيع المواجهات في الشرق الأوسط، من غزّة إلى لبنان واليمن والعراق وسوريا، أمكن للولايات المتحدة وإسرائيل وحتى لإيران أن تُقصر الحرب الفعلية على رقعة قطاع غزّة. منحت الإدارة الأمريكية، ولا تزال، ضوءًا أخضر ودعمًا كاملًا للانتقام الإسرائيلي من الفلسطينيين، ودفعت الكثير من رصيدها المعنوي حتى داخل أمريكا إلى حدّ إضعاف حظوظ الرئيس جو بايدن في إعادة انتخابه، وذلك مقابل أن تغضّ إسرائيل النظر عن ضرورة شنّ حرب على إيران باعتبارها الصانعة الأصلية لـ «طوفان الأقصى». وعلى الرغم من أن ميليشيات طهران تحرّكت جميعًا غداة عملية «7 أكتوبر»، بل إن «حزب إيران/ حزب الله» بادر إلى فتح جبهة جنوب لبنان بمشاركة من فصائل فلسطينية، إلا أن المرشد علي خامنئي أكد دعم إيران لـ «حماس» لكنه تمايز عن «الطوفان» ليقول إن «حماس» مسؤولة وحدها عن التخطيط والتنفيذ واختيار التوقيت.

لم يكن «تبرّؤ» المرشد مقنعًا حتى بعدما أضيف إليه أن جماعات «المقاومة» تتمتّع باستقلالية ولا تتصرّف بأوامر من طهران، لكنه كان كافيًا لإطلاق مفاوضات أمريكية- إيرانية غير مباشرة وضعتها واشنطن تحت هدف معلن هو «عدم توسيع نطاق الحرب»، ثم عزّزتها بتسريب أنها ضغطت على إسرائيل كي تمتنع عن تصعيد المواجهة إلى حدّ الحرب في الشمال، أي مع «حزب إيران» في لبنان، بل اعتبرت هذا التصعيد «خطًّا أحمر» بحسب بعض المصادر. كانت طهران قوّمت عملية «حماس» في ضوء إستراتيجيتها الإقليمية مستخلصةً أنها حققت أهدافها العسكرية منذ اللحظة الأولى، بدليل أن كل التحليلات الإسرائيلية لا تزال تتحدث عن تلك «اللحظة» لتخلص إلى أن كل ما فعله الجيش الإسرائيلي من تقتيل وتدمير في غزّة لم يعد إليه هيبته بعد.

على هذا الأساس اعتبرت طهران أنها تملك مفاتيح «توسيع الحرب» أو حصرها، فحافظت على التسخين في لبنان، وعلى المناوشات بين ميليشياتها والقواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وعلى توتيرٍ ثم تهديدٍ محسوبَين من اليمن، متوقّعةً أن تكون واشنطن مستعدّة لتنازلات جوهرية في الملفات العالقة بينهما، وهي كثيرة.

لأسابيع طويلة ساد منطقان: الأمريكيون يدافعون عن «عدم توسيع جبهات الحرب»، والإيرانيون ووكلاؤهم يطالبون بوقف الحرب. وهكذا بدت طهران كأنها جزءٌ من تيار عالمي سلمي يدعو إلى «وقف إطلاق النار»، فيما تلوّثت واشنطن بعار «الإبادة الجماعية» بعدما عبّرت محكمة العدل الدولية بوضوح عن «اشتباه»/ «اتهام» بأن إسرائيل ارتكبت ما يرقى إلى جرائم إبادة. ومع تخطّي المقتلة في غزّة يومها المئة، وظهور آثار التهديد الحوثي للملاحة والتجارة عبر البحر الأحمر، أصبح الجميع موقنًا بأن واشنطن فشلت في حصر الحرب في غزّة وأن رسائلها السرّية إلى طهران بلا جدوى، لكنها مع ذلك أبقت ردود فعلها عند مستوى منخفض بحيث لا تقوّض قوّة الحوثيين. وفي الوقت نفسه تبيّن أن إيران هي التي تدير الحرب خارج غزّة، إلّا أن تجهيلها كطرف ظلّ وسيلة لعدم الاعتراف بأي دور لها في المرحلة المقبلة.

واقعيًا، ولأن إدارة بايدن تستعد للانتخابات، لم تقدم واشنطن لطهران أي «صفقة» ترفع العقوبات عنها أو تحسم الخلاف النووي معها أو تعترف بنفوذها في المنطقة أو تعتبرها طرفًا يمكن أن يشارك في أي ترتيبات دولية- إقليمية بعد حرب غزّة. أما طهران فصارت متعايشة مع العقوبات ومخترقة لها، ثم أنها ماضية في تطوير برنامجها النووي، ولا تبدو قلقة على نفوذها وتعتقد أنها استطاعت فرض نفسها على «اليوم التالي» في غزّة، إمّا لاعبة أو مخرّبة. ولأن المفاوضات لم تأت بمكاسب، وأيضًا بسبب مجزرة كرمان واغتيال عدد من ضباطها الكبار في سوريا، قرّرت إيران أن ترفع درجة التصعيد، إلا أنها لم تذهب إلى حدّ التعرّض المباشر لإسرائيل أو للأمريكيين، فقصفت أربيل وتسبّبت بأزمة في بغداد وبغضب شعبي في العراق، ثم قصفت باكستان فحصدت ردًّا عسكريًا لم تتوقّعه على أراضيها، وفي الحالين اضطرّت لاحتواء الموقف. ومع أن التوتّر في البحر الأحمر دفع الصين إلى طلب وقف ضربات الحوثيين، إلا أن بكين لا تزال تقوّم مصالحها بين أثر تلك الضربات على تجارتها وبين الإفادة من التحدّي الإيراني- الحوثي الذي تتعرّض له أمريكا في منطقة يفترض أنها خاضعة لهيمنتها.

لم تتوصّل إيران فقط إلى إخراج إسرائيل عن طورها وزعزعة مسار التطبيع العربي معها، بل تعتقد أنها اقتربت أكثر إلى الهدف الكبير الذي حددته منذ زمن، وهو إخراج الأمريكيين من المنطقة. فالاتفاق بين واشنطن وبغداد على بدء محادثات لتحديد جدول الانسحاب الأمريكي يشكّل اختبارًا لإيران التي يجب أن تحسم ما إذا كانت قادرة وجاهزة لملء الفراغ بكل جوانبه وتعقيداته، فضلًا عن أنه يمثل خيار حكومة تسيطر عليها فصائل إيرانية الولاء، وليس خيار جميع المكوّنات العراقية. صحيح أن الجانب الأمريكي لم يكن فاعلًا في الحفاظ على التوازن الداخلي إلا أن غيابه سيكشف الخلل؛ فالكرد والسنّة لا يحبّذون خروج أمريكا من المعادلة. وإذ أوضحت واشنطن أن انسحابها لن يكون «بلا ثمن» وأنها ستواصل ضرب أي ميليشيا تتعرّض لقواتها، فإن المستوى الحكومي- العسكري في بغداد سيواجه عاجلًا لحظة الحقيقة في تبرير ازدواجية القوات المسلحة مع «الحشد الشعبي»، سواء بالنسبة إلى مرجعية الولاء للدولة والشعب بجميع أبنائه أو للولي الفقيه و«الحرس الثوري».

تعتبر إيران أن الحرب على غزّة مكّنتها أخيرًا من فرض نفسها كقوّة وصاية وحيدة على العراق، مثلما أنها فرضت «حماس» و«الجهاد» كطرف «مقبول» من عموم الفلسطينيين. لدى العراق قدرات وموارد ذاتية للاستمرار لكن السلوك العدائي للأمريكيين (بدفع من إيران) قد يعرّضه لعقوبات أو قيود مالية سبق لطهران أن تأثرت بها. أما فلسطين فتحتاج إلى دعم كامل سواء لغزّة أو للضفة طالما أن إسرائيل تمارس حصارًا عليهما وتتحكّم بالأمن والاقتصاد، فإمّا أن إيران لديها حلول سحرية لإعادة الإعمار أو أنها تساهم عمليًا في تهجير الفلسطينيين، وهو الهدف الذي تسعى إليه زمرة المتطرّفين في إسرائيل.

تنطبق الحالان العراقية والفلسطينية على بقية مناطق النفوذ الإيراني. فمن جهة تستغلّ طهران مأساة غزّة لترسيخ وجود وكلائها في لبنان واليمن وسوريا، ومن جهة أخرى تحاول حصر الحلول لهذه الأزمات بأن ترضخ القوى الإقليمية والغربية لبقاء هذه البلدان تحت الهيمنة الإيرانية، وهذا طرحٌ ليس مستبعدًا فحسب، بل إنه غير واقعي.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»