«يستغلون الوضع الحالي لمضايقة الفلسطيين أكثر فأكثر...إنها فضيحة ألا تتحدث أوروبا عن هذا..ما يحدث في الضفة الغربية تطهير عرقي».

حين صرخ سفير فرنسا السابق في إسرائيل بهذه الجملة الشهر الماضي، متحدثا عن عن المستوطنين والتطهير في الضفة الغربية، لم يكن أول من أشار إلى ذلك. ولم تكن جنوب إفريقيا وهي تذهب لمحاكمة الإبادة الجماعية دوليا آخر من تطرق للأمر، فهناك إسرائيلي من بني جلدتهم سبق له أن تناول وبالتفصيل، وبطرح علمي حوى كل الموضوعية المأساة.

الأكاديمي البارز إيلان بابيه (llan Pappe) يدعو إلى اعتراف دولي بهذه المأساة. ويلقي عمله الرائد والمثير للجدل ضوءاً جديداً على أصول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وتطوراته، ويطرح تساؤلات فشل العالم حتى الآن في طرحها من أجل القصة الحقيقية وراء أحداث 1948.

الطرد الجماعي

تبرهن رواية بابيه، المفعمة بالحيوية والآتية في الوقت المناسب، والمستندة إلى بحث علمي دقيق اشتمل على تفحص مواد أرشيفية أفرج عنها مؤخراً، بصورة لا تقبل الجدل أن «الترانسفير» - تعبير ملطف عن التطهير العرقي -كان منذ البداية جزءا لا يتجزأ من إستراتيجية رسمت بعناية ودقة، وتكمن في أساس الصراع المستمر إلى الآن في الشرق الأوسط. فإذا كانت الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية سنة 1948 هي في نظر الإسرائيليين «حرب الاستقلال»، هي بالنسبة إلى الفلسطينيين ستظل إلى الأبد «النكبة». فبالإضافة إلى نشوء دولة إسرائيل أدت الحرب - بحسب بابيه - إلى واحد من أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث. إذ طرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح، وارتكبت مجازر بحق المدنيين، ودمرت مئات من القرى الفلسطينية عمداً. ومع أن الحقيقة بشأن الطرد الجماعي الهائل شوهت وجرى طمسها بصورة منهجية فإنه لو كان حدث في القرن الحادي والعشرين لكان سمي «تطهيراً عرقياً».

التحضيرات العسكرية

يقول بابيه في كتابه: «منذ البداية سمحت السلطات الانتدابية البريطانية للحركة الصهيونية بإنشاء كيان مستقل لها في فلسطين ليكون بمثابة بنية تحتية للدولة العتيدة. وفي أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي تمكن قادة الحركة من ترجمة رؤيتهم المجردة، المتعلقة بجعل فلسطين مقصورة على اليهود إلى خطط ملموسة. وقد اشتملت التحضيرات الصهيونية للتمكن من الاستيلاء على البلد بالقوة في حال عدم الحصول عليه عن طريق المساعي الدبلوماسية على إنشاء منظمة عسكرية فعالة - بمساعدة ضباط بريطانيين متعاطفين - وعلى البحث عن موارد مالية وفيرة كان في استطاعتهم اللجوء إلى يهود الشتات من أجل الحصول عليها».

أساليب التطهير

يسلسل باييه الأحداث الرئيسة بين فبراير 1947 ومايو 1948، حين اتخذت الحكومة البريطانية قراراً بالانسحاب من فلسطين الانتدابية وتركها للأمم المتحدة كي تجد حلاً لمسألة مستقبلها. أمضت الأمم المتحدة تسعة أشهر في مناقشة الأمر، ومن ثم تبنت فكرة تقسيم البلد. وقبلت القيادة الصهيونية التي كانت أصلاً تدعو إلى التقسيم، بالقرار، بينما رفضه العالم العربي والقيادة الفلسطينية التي اقترحت بدلاً من ذلك إبقاء فلسطين دولة موحدة والعمل على إيجاد حل للوضع من خلال عملية تفاوض مديدة. لقد تم تبني قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947، وبدأ التطهير العرقي في فلسطين أوائل كانون ديسمبر 1949 بسلسلة من الهجمات اليهودية على قرى عربية وأحياء في المدن، رداً على أعمال تخريب لحافلات ركاب ومراكز تجارية رافقت الاحتجاجات الفلسطينية على قرار الأمم المتحدة خلال الأيام القليلة الأولى التالية لتبنيه .

لم يبق سوى مسجد واحد

في 9 يناير 1948، دخلت وحدات من جيش المتطوعين العرب فلسطين واشتبكت مع القوات اليهودية في معارك صغيرة بشأن الطرق والمستعمرات اليهودية المنعزلة. ومع انتصار القوات اليهودية بسهولة في هذه المناوشات، غيرت القيادة اليهودية تكتيكاتها من أعمال انتقامية إلى عمليات تطهير. وتبع ذلك عمليات طرد بالقوة في أواسط فبراير 1948 عندما نجحت القوات اليهودية في إخلاء خمس قرى من سكانها في يوم واحد. وفي 10 مارس 1948، تم تبني خطة دالت، وقد جرى في هذه المرحلة اقتلاع نحو.000. 250 فلسطيني من أماكن سكنهم، ورافق ذلك مجازر عديدة أبرزها مجزرة دير ياسين. ونتيجة هذه التطورات اتخذت جامعة الدول العربية في اليوم الأخير من أبريل، قراراً بالتدخل عسكرياً، لكن ليس قبل انتهاء الانتداب البريطاني. غادر البريطانيون البلد في 15 مايو 1948، وأعلنت الوكالة اليهودية على الفور قيام دولة يهودية في فلسطين اعترفت بها في اليوم نفسه القوتان العظميان آنذاك، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.

كانت يافا آخر مدينة يجري احتلالها، وحدث ذلك في 13 مايو، قبل يومين من انتهاء الانتداب. وعلى غرار كثير من المدن الفلسطينية، كان ليافا تاريخ طويل يرجع إلى العصر البرونزي، وتراث روماني وبيزنطي مثيران للإعجاب. وكان القائد المسلم، عمرو بن العاص هو من احتل المدينة سنة 632، وأكسبها صفتها العربية. وكانت يافا الكبرى تشتمل على أربع وعشرين قرية عربية وسبعة عشر مسجداً؛ لم يبق منها سوى مسجد واحد بينما اختفت القرى جميعها من الوجود.

خيانة الأمم المتحدة

بموجب قرار التقسيم كان ينبغي للأمم المتحدة أن تكون حاضرة على الأرض لتشرف على تنفيذ خطتها للسلام، أي جعل فلسطين بكاملها بلداً مستقلاً، يشتمل على دولتين متميزتين تجمعهما وحدة اقتصادية. وقد تضمن القرار الصادر في 29 نوفمبر 1947 أموراً إلزامية واضحة جداً، منها التعهد بأن تمنع الأمم المتحدة أية محاولة من أي الطرفين لمصادرة أراضٍ تعود ملكيتها إلى مواطني الدولة الأخرى، أو أية مجموعة قومية أخرى - سواء أكانت أراضي مزروعة أو غير مزروعة، أي أراضي مراحة من غير زرع لمدة عام تقريباً. وإنصافاً لممثلي الأمم المتحدة المحليين يمكن القول إنهم على الأقل شعروا بأن الأمور تتجه من السيئ إلى الأسوأ، فحاولوا الدفع في اتجاه إعادة تقويم سياسة التقسيم، لكنهم عملياً لم يقوموا بأكثر من المراقبة وإرسال تقارير عن بدء التطهير العرقي. وكان وجود الأمم المتحدة في فلسطين محدوداً لأن السلطات البريطانية منعت وجود فريق منظم من الأمم المتحدة على الأرض، متجاهلة بذلك الجزء من قرار التقسيم القاضي بوجود لجنة من الأمم المتحدة في فلسطين. لقد سمحت بريطانيا بحدوث التطهير العرقي الذي جرى تحت بصر وسمع جنودها وموظفيها خلال فترة الانتداب التي انتهت في منتصف ليل 14 مايو 1948، كما أنها أعاقت جهود الأمم المتحدة للتدخل بطريقة كان من الممكن أن تؤدي إلى إنقاذ كثيرين من الفلسطينيين. أما الأمم المتحدة، فلا يمكن تبرئتها من ذنب التخلي، بعد 15 مايو، عن الشعب الذي قسمت أرضه وسلّمت أرواحه وأرزاقه إلى اليهود الذين كانوا منذ نهاية القرن التاسع عشر يريدون اقتلاعه والحلول مكانه في البلد الذي كانوا يعتقدون أنه ملك لهم.

إيلان بابيه

ولد في 1954 بحيفا

مؤرخ إسرائيلي بارز

أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة

مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة

المدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية.

كان محاضرًا في العلوم السياسية بجامعة حيفا (1984-2007)

رئيسًا لمعهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية في حيفا (2000-2008).

ينتمي إلى تيار المؤرخين الجدد الذين أعادوا كتابة التاريخ الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية

يلقي اللوم على إنشاء إسرائيل بسبب عدم وجود السلام في الشرق الأوسط

يرى أن الصهيونية أكثر خطورة من التشدد الإسلامي.

من الدعاة إلى مقاطعة المؤسسات التعليمية الإسرائيلية.

يدعم حل الدولة الواحدة وقيام دولة ثنائية القومية للفلسطينيين والإسرائيليين.

مؤلفاته:

التطهير العرقي لفلسطين (2006)

الشرق الأوسط الحديث (2005)

تاريخ لفلسطين الحديثة ارض واحدة وشعبان (2003)

عشر خرافات عن إسرائيل (2017)