هذه هي مواقف المملكة العربية السعودية على الدوام، وهكذا سياستها التي تقوم على المبادئ، وضوح غير قابل للتأويل ولا يرضى بأنصاف الحلول، حيث جدّدت موقفها المبدئي الذي سبق أن أعلنته منذ وقت طويل وأعربت عنه في مناسبات عديدة بعدم إقامة علاقات مع إسرائيل، ما لم يتم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ووضع الحلول العاجلة التي تكفل إقامة دولته المستقلة على حدود عام «1967» وعاصمتها القدس الشرقية، وإعادة كافة حقوقه، وإيقاف العدوان على غزة، وسحب كافة قوات الاحتلال من القطاع ووقف إطلاق النار بصورة نهائية.

لم يقتصر الموقف السعودي الشجاع على ذلك، بل إن المملكة جددت دعوتها للمجتمع الدولي، خصوصا الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي لم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسطينية بأهمية الإسراع في ذلك لتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه المشروعة وتحقيق السلام الشامل والعادل للجميع.

هذا الموقف التاريخي كررته وزارة الخارجية في بيانها خلال الأسبوع الماضي، مشيرة بوضوح إلى أنه لن تكون هناك علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتم استيفاء هذه الشروط، وهو ما يضع حدا لحملة التسريبات المتعمدة التي تقف وراءها عديد من الجهات الإعلامية والدبلوماسية الغربية، ويبرهن على سيادة القرار السعودي وعدم ارتهانه لأي حسابات من أي دولة كانت، كما يؤكد مواقف السعودية تجاه الشعب الفلسطيني ودعمه معنوياً ومادياً وسياسياً، والحرص على مصلحته وحصوله على حقوقه المشروعة.

وكانت بعض الدوائر السياسية قد حاولت في مرات كثيرة تسريب أخبار مغلوطة بإمكانية إقامة علاقات بين السعودية ودولة الاحتلال، كنوع من ممارسة الضغوط أو جس النبض، وحلقة ضمن ألاعيب السياسة ودهاليزها المتعرجة. وإن كانت المملكة في مناسبات سابقة عديدة قد أحجمت - ترفعا - عن الرد على تلك الترهات من باب رفض الانسياق وراء المزايدات، إلا أنها وضعت الآن حدا للمساومات وأكدت ثبات رؤيتها ووحدة مواقفها.

تلك التسريبات كانت تهدف لمحاولة إثارة الرأي العام، وإيهام المسلمين والعرب أن السعودية تنفتح في علاقتها مع إسرائيل، لكن الرياض سارعت لنفيها واجتثاثها، وبذلك دحضت هذه الادعاءات، وأكدت أن محاولة تسويق الشائعات عن مواقفها من القضية الفلسطينية لن تغير في موقفها الثابت والمؤكد عبر السنين.

والمتتبع لمسيرة التأييد والدعم السعودي المتواصل لفلسطين ومناصرتها لاستعادة حقوقها المشروعة يلحظ بوضوح أن ذلك ظل موقفا مبدئيا للمملكة لم يتغير منذ بروز أزمة فلسطين، فقد دأبت على إدانة ومواجهة كل أنواع الظلم والاضطهاد الذي تُمارسه دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، ويشهد التاريخ أنها تدخلت في مرات كثيرة للدفاع عنهم في كافة المحافل الدبلوماسية والسياسية، وحشدت الدعم الدولي لمصلحتهم، واستقطبت العالم إلى جانبهم. كما واصلت تقديم الدعم للفلسطينيين في كافة المحافل الدولية وفي مصانع القرار العالمي، ورفضت بكل قوة تقديم أي نوع من التنازلات التي تضيع معها الحقوق المسلوبة.

فالمملكة منذ توحيدها على يد الملك المؤسس المغفور له -بإذن الله- عبدالعزيز آل سعود، وضعت قضية فلسطين في مقدمة أولوياتها، وتولت تنسيق المواقف الإسلامية والعربية الداعمة لها، ولا يزال هذا الموقف ثابتا باعتبار فلسطين القضية المحورية لكافة المسلمين والعرب. كما تقدمت بمبادرة السلام العربية التي مثَّلت نقلة نوعية وسانحة مواتية لوضع حلول ناجعة لهذه المشكلة المستعصية، لكن التعنت الإسرائيلي حال دون استكمالها.

وأولت المملكة كذلك أهمية قصوى لإلزام تل أبيب على وقف بناء المستوطنات على الأراضي المحتلة، ودعمت ما ورد في قرار مجلس الأمن 2334 الذي أكد أن مصادرة الأراضي الفلسطينية تشكل انتهاكاً صارخاً بموجب القانون الدولي، وعقبة أمام تحقيق السلام الدائم والشامل، ودعت مرارا وتكرارا للتقيد بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة التي تُعنى في الأساس بتحقيق الأمن والسلم الدوليين.

وكانت كلمات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان واضحة جدا في هذا الشأن عندما قال «موقف المملكة الثابت والراسخ هو أن لا سبيل لتحقيق الأمن والاستقرار في فلسطين إلا من خلال القرارات المتعلقة بحل الدولتين لتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه المشروعة وإقامة دولته على حدود 1967». ووصف ما يحدث في غزة من اعتداءات إسرائيلية متواصلة وتدمير المنشآت والبنى التحتية، بما فيها المؤسسات الصحية ودور العبادة بأنها كارثة إنسانية وجرائم وحشية في حق المدنيين الأبرياء، تتطلب القيام بدور جماعي لوقفها.

بهذه الشفافية تؤكد المملكة من جديد ثبات موقفها من هذه القضية المركزية، وهو موقف يستمد مبرراته من إدراكها لطبيعة المكانة الروحية التي تحتلها في نفوس المسلمين في كافة دول العالم كحاضنة للحرمين الشريفين ومهبط للوحي، إضافة إلى كونها دولة رئيسية وقائدة للعالم العربي. لذلك فهي توظف هذه الخصائص الفريدة، وتستخدم ثقلها السياسي الكبير لما يحقق الهدف الأسمى المتمثل في استعادة كافة الحقوق المسلوبة.

خلاصة القول، إن المملكة أزاحت كل غيوم التشكيك، ووضعت حدا لكل التسريبات المغرضة، وجددت التأكيد على موقفها الثابت، وهو أن لا تطبيع أو إقامة علاقات مع كيان يغتصب حقوق العرب والمسلمين، وينتهك محرماتهم ويصادر حقوقهم، ويتمادى في تجاوز الأعراف ويضرب بالقوانين عرض الحائط. فإذا كانت إسرائيل تريد العيش بسلام وسط دول المنطقة وتتمتع بعلاقات طبيعية معها فإن السبيل إلى ذلك معلوم، والطريق واضح، وهو إعادة الحقوق إلى أهلها، والانصياع إلى أصوات العقل، والكف عن استهداف الأبرياء. رفعت الأقلام وجفت الصحف.