هذا الوعي الضدي علامة فارقة من العلامات التي تؤسس الشروط الملازمة للحداثة، ذلك لأنه وعي مناقض لصفات الإطلاق، اليقين، التسليم، النقل، التقليد، الإجابات الجاهزة القوالب المتكررة، الذات العارفة بكل شيء. وهو الوعي الذي يستبدل بالمطلق النسبي، وباليقين الشك، وبالإجابة الثابتة السؤال الدائم. وهو يؤسس نفسه بوصفه وعيًا إشكاليًا يرى في الشك علامة العافية، وفى السؤال شرط الوجود، وفي النفي دلالة الحرية. ولأن إبداع الحداثة نتاج حركة هذا الوعي فإن هذا الإبداع يتحرك، دائمًا، في أفق يجدد تصوراتنا عن الواقع وعلاقتنا به، على نحو ينسرب بالتساؤل والشك والاحتجاج في كل تصور وكل علاقة.
هذا الأفق المعرفي يجعل من رؤيا الحداثة منظومة مختلفة المجالات متعددة الوظائف لكنها رغم اختلاف مجالاتها وتعدد وظائفها تظل منطوية على وحدتها الخاصة بوصفها منظومة، ومن ثم على وظائف متجاوبة، فهى قرينة البحث الذي لا يتوقف لتعرف أسرار الكون، والمضي في اكتشافه والسيطرة عليه، من المنظور الفكري العلمي؛ ومن ثم قرينة الارتقاء الدائم بموضع الإنسان في هذا الكون، من المنظور السياسي الاجتماعي، بالمعنى الذي يبرر الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، ومن الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال. ومن سطوة الخرافة أو الأسرة أو القبيلة أو المشيخة إلى الدولة الحديثة.. بمعناها الذي يقرن العلم بالعدل، والمساواة بالحرية، ويقرن الحرية بحق العقل الإنساني في التمرد الدائم على أدوات إنتاج المعرفة السائدة في عصره وعلاقات إنتاجها على السواء.
والحداثة قرينة التحديث، من هذه الزاوية، بل هي الوجه الذي ينصرف إلى الإنشاء والابتداء على مستوى الفكر والإبداع، بينما التحديث هو الوجه الذي ينصرف إلى تغيير أدوات الإنتاج المادية في المجتمع، وتغيير علاقاته، بما يكافئ الحلم الإنساني بالانتقال من أسر الضرورة إلى عالم الحرية الذي لا يكف عن التجدّد، وذلك بالمعنى الذي يجعل من التفكير العلمي المضاد للخرافة موازيًا لمنطق الوعي الضدي المناقض للأتباع، فالحداثة كالتحديث تمرد دائم على كل ما يحجر أدوات إنتاج المجتمع وعلاقاته في قيود الاتباع التي تعني التخلف، والتحديث كالحداثة تطلع دائم إلى المستقبل الذي يعد بالتقدم اللانهائي.
إن صدمة «التحديث ومخايلته تشبه النداهة في قصة يوسف إدريس الشهيرة، حيث ينتزع الوعي من سباته الذي ألفه، وينتقل من فضاء إلى فضاء مناقض، وتنتهك براءة تسليمه بقيم الأتباع ليدخل عالمًا آخر، يعد بالمغامرة والتجارب المقلقة، ويستبدل بالبراءة والبكارة التجريب والمهارة. إنه العالم الذي يبدأ بهذه الكتل الحديدية المتحركة التي أنهت العصر القديم لوادي العيون، في الجزء الأول (التيه) من رواية عبد الرحمن منيف مدن الملح حين تفجر مشاعر الضغينة والنزق والخوف، دون أن يدركوا أو يقدروا بوضوح أي شيء يمكن أن يحدث، ولعلهم - مثل سكان وادي العيون - يأملون أن يقع في اللحظة الأخيرة أمر يغير كل ما يدبر ويخطط، فتعود الأمور إلى ما كانت عليه، وينتهي الحلم القاسي الطويل. ومع ذلك، يظل كل واحد منهم موقنًا أن نهاية ما أصبحت وشيكة وكل واحد يريد رؤية هذه النهاية بنفسه، وأن يعرف كل التفاصيل، حتى أصغرها وأكثرها خفاء، وإذا كان من الممكن القول إنه لا حداثة دون تحديث فإن العلاقة بينهما علاقة تلازم بالضرورة. بمعنى أن التحديث المادي لا يمكن أن يتم دون أن يفضى إلى حداثة فكرية، وفى الوقت نفسه، فإن الحداثة تؤسس المهاد الفكري للتحديث وتدفعه إلى الأمام.
1991*
* ناقد وأكاديمي مصري (1944 - 2021)