لو تتبعنا مسيرة (العقل في التاريخ) والتزمنا بثنائية (العقل والحرية) لأن كل واحدة منها تغذي نمو الأخرى، (العقل) يتغذى بالحرية منذ تجلياته الأولى التي تظهر في جموح اللغة شعرًا وخيالًا يتجاوز بؤس الواقع، وفي تجلياته العملية يظهر جموح العقل في آلةٍ ويد تحررًا من قيود الطبيعة، والعكس في (الحرية) متعطشة إلى (أرستقراطية العقل) في تجلياته الأولى منذ (سقراط 470 ق.م) عاشقًا للحرية كعقل بلا ثورة إلى (سبارتاكوس 111 ق.م) عاشقًا للحرية كثورة بلا عقل فأيهما أعظم أثرًا في التاريخ؟! طبعًا سقراط الحكيم حتى ولو تجرع السم احترامًا للقوانين.

كل هذه الجدلية داخل التاريخ/ داخل الإنسان ليكتشف الإمكانات الكامنة في الواقع، وسأطرح مثالًا كان يحكيه أبي أواخر عمره ونحن أطفال قبل قرابة نصف قرن ونحن متجهين بالسيارة من أبها إلى البحر فيقول لنا عندما يرى دهشتنا الخائفة من دخول الأنفاق التي في الطريق: هل تعرفون أن هذا الجبل كنا نسميه نحن الجمَّاله/أصحاب الجمال، كنا نسميه: الحنو الطويل، وكنا ننقسم فريقين ففريق يبقى مع الجِمال في الوادي يلتفوا مع التفافة الوادي ليصلوا إلى الوجه الآخر من الجبل، وكان يأخذ منهم نصف النهار، والبقية يصعدون الجبل ويهبطون مباشرة من الجهة الأخرى ليهيئوا المكان لأصحابهم القادمين رفق القافلة، ولو قيل لنا آنذاك إن هناك من يفكر في (حفر الجبل واختراقه) ليصنع ثقبًا يمتد من جانب ليظهر من الجانب الآخر، لاتهمناه بالجنون فحتى العفاريت لم تفعل هذا زمن الملك سليمان... ثم يصمت مكررًا: العقل الإنساني غلب حتى العفاريت وتجاوزها بمراحل، العقل يستطيع ما لا يستطيعه العفريت، ثم يعود فيقول: هل نسيتم الملك سليمان مع عرش بلقيس عندما قال له (عفريت من الجن): أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، بينما الذي (عنده علم من الكتاب) قال: آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، العلم والكتاب غلبا العفريت، والعلم لا يكون بلا عقل، ولا عقل مكتمل بلا علم، ولا علم بلا كتاب... يقولها: كتراتيل من كثرة ما يكررها علينا كلما دخلنا النفق... أظنه كان يقرأ حركة (العقل في التاريخ) ويتقاطع مع هيجل في ثنائية (العقل والحرية) كهدف للتاريخ، كان يتقاطع مع هيجل ليس بالمعنى الفلسفي العميق للنظرية الهيجلية، بل بالمعنى العملي في الدهشة الإنسانية الأولى المختومة بعبارة (سبحان الله العظيم) الذي حكى عنه باشلار كنوع من (قانون الحالات الثلاث للنفس المتميزة بالاهتمامات: النفس العاميّة أو العادية: المتحركة بدافع حب الاستطلاع الساذج، المصابة بالدهشة أمام أدنى ظاهرة آلية، والتي تتعاطى مع الفيزياء لأجل التسلي لكنها تتذرع بموقف جدي، ترحب بمناسبات الهاوي، وهذه النفس سلبية حتى في سعادة التفكير...) هل هجوت أبي؟! ربما... لكنه هو نفسه كان يقسو على الأكاديميين إذ يلومهم بما خلاصته في القانون الثاني من حالات النفس عند باشلار (النفس المعلمة/الأستاذية: فخورة جدًا بمعتقدها، متحجرة في تجريدها الأول، تستند مدى الحياة إلى نجاحات شبابها المدرسية، تكرر معرفتها في كل عام، وتفرض براهينها، وتخصص كل شيء للاهتمام التربوي، تؤيد السلطة الأكاديمية وتعمل على خدمتها...) ومن حق أبي أن يعاتبهم ما داموا يعيشون وفق هذه الأوصاف التي ذكرها باشلار، ومن حقي كمثقف أن أضرب بمهماز النقد على عقولهم ليرتقوا إلى الحالة الثالثة العليا وفق باشلار: (النفس التي تعاني من مصاعب التجريد والاكتناه، وهي وعي علمي متألم، يسترسل في الاهتمامات الاستقرائية الناقصة باستمرار، ويلعب لعبة الفكر الخطرة دون مرتكز تجريبي في حق خاص بالتجريد، لكنها واثقة جدًا من كون التجريد واجبًا، وأنه هو الواجب العلمي، والامتلاك النقي الأخير لفكر العالم) راجع: «تكوين العقل العلمي/ غاستون باشلار ص9 ــ 10».

وهنا وعبر المزج ما بين هيجل وباشلار صنعنا سيرة مبتسرة وموجزة جدًا عن مسيرة العلم عبر (العقل في التاريخ) وفق ثنائية (العقل والحرية) والديالكتيك الحاصل بينهما هو (طريق العلم) الطويل جدًا الذي بدأ من (ورشة الخيميائي) داخل إحدى غرف منزله بعيدًا عن أعين الكهنوت قبل مئات السنين، وصولًا إلى (معمل الكيميائي) داخل أحد مراكز الأبحاث العلمية تتمايز بها الدول علنًا أمام العالم.