ويضيف زحلان: «د. حسن الشريف الذي رافقَ العمل في هذا الكتاب... فكان مُترجِمًا ومُراجِعًا ومُدقِّقًا، ثمَّ واظبَ على الاهتمام في مرحلة إعداد هذا الكتاب بصورته الحاليّة...».
هجرة العقول العربية
في كلام مؤلِّف الكتاب عن مُترجِمه، والذي هو كاتب هذه السطور، إشارة ضمنيّة إلى أنّه كانت له معه رحلة طويلة على درب «العلم والتنمية والالتزام»، بدأت عندما التقيا معًا للمرّة الأولى في صيف العام 1967، وبالتحديد بُعيد هزيمة الجيوش العربيّة أمام دولة الاحتلال: إسرائيل. ومذْ ذاك انطلَقا مع آخرين ليكون العِلم إلى جانب الالتزام مكوِّنًا في فكر حركة التحرُّر الفلسطينيّة، وكذلك مُجمل حركات التحرُّر العربيّة. واستمرّا معًا إلى أن كانت خاتمة صدور كتاب أنطوان الأخير عن الموضوع عَيْنِه قَبل وفاته. وكان أنموذجًا في العمل على ترجمة أفكاره العلميّة إلى مشروعاتٍ عمليّة قابلة للتنفيذ... و«منه تعلَّمتُ شخصيًّا الكثير». أنطوان زحلان من مواليد حيفا في العام 1928 ولجأ مع أهله إلى بيروت في العام 1948. حازَ شهادة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة سيراكيوز في الولايات المتّحدة؛ ثمّ التحقَ بالجامعة الأمريكيّة في بيروت لمدّة عشرين عامًا، ناشرًا عددًا كبيرًا من الأبحاث العلميّة، بما في ذلك قضايا العلاقات بين العِلم والتكنولوجيا وتنمية المجتمعات العربيّة. ودرَّس في جامعة ستانفورد وجامعة نورث كارولينا في الولايات المتّحدة، وعملَ كباحثٍ زائر في جامعة ساسكس في إنكلترا.
شاركَ في العام 1975 في وضع دراسة رؤيويّة تخصّ «العالَم العربي سنة 2000»، مُركِّزًا على تطوير قدراتٍ بشريّة علميّة، فلسطينيّة وعربيّة، تُواجِه التطوّرَ العلمي في دولة الاحتلال إسرائيل.
وفي مطلع السبعينيّات من القرن الماضي عملَ د. زحلان على ربْطِ الخبرات العربيّة في الخارج بالمشروعات التنمويّة في داخل البلدان العربيّة، وطرحَ أفكارًا حول التخفيف من «هجرة العقول العربيّة، وخلْق تيّار هجرة مُعاكسة للخبرات العربيّة».
شاركَ في العام 1980 في تنظيم أوّل مؤتمر للموارد البشريّة في البلدان العربيّة، بالتعاون مع الإسكوا، وقدَّم دراسةً علميّة وافية حول إقامة مركز لنقل التكنولوجيا المتطوّرة خاصّ بالمنطقة.
أسَّس في العام 2009 مع موزة الربّان «منظّمة المجتمع العلميّ العربيّ»، والتي ما زالت برئاسة موزة حتّى اليوم.
نشر الدكتور أنطون زحلان حوالي 250 كتابًا وأكثر من 150 ورقة بحثيّة في المجالات العلميّة المختلفة، وسياسات العلوم وعلاقة العلم بالتنمية؛ وكِتابه الأخير الذي صدر بالعربيّة والإنكليزيّة في العام 2012، تحت عنوان «العلم والسيادة في البلدان العربيّة...»، ربطَ خلاله بين التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومستلزمات تنمية الموارد البشريّة والعلميّة في عالَمِنا العربي.
ذكريات اللقاء الأول
.. وكما أسلفت، كان لقائي الأوّل بالدكتور زحلان في بيروت صيف العام 1967، وتحديدًا بُعيد هزيمة 5 حزيران/ يونيو الشهيرة، التي هزّت في الصميم ضمائرَ الأجيال الشبابيّة العربيّة أينما كانت، والشباب الفلسطيني بين هذه الأجيال على نحوٍ خاصّ، فالتفَّ الجميع حول انطلاقة المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة، يَجمعهم ما جَمَعني بالصديق أنطوان زحلان على امتداد علاقتي الطويلة معه: ربْط تحرير فلسطين بحركة التحرُّر والتنمية العربيّة. التقينا في مَكتبه كرئيسٍ لقسم الفيزياء في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وكنّا مجموعةً صغيرة تداوَلتْ معه مسألة إدخال «البحث العلميّ ومَيادين العِلم بشكلٍ عامّ» في سياق عمل المقاومة الفلسطينيّة وحركة التحرُّر العربيّة. وكانت تلك مُبادَرةً أدّت فيما بعد إلى تشكيل «اللّجنة العلميّة» في حركة فتح. وبقينا، أنطوان وأنا، أعضاءَ شرفٍ في تلك اللّجنة، وذلك إلى تاريخ خروج المقاومة من بيروت في العام 1982. ومن خلالها تعرّفنا إلى عدنان سمارة، الذي يشغل اليوم موقع رئيس «المجلس الأعلى للإبداع والتميُّز في فلسطين».
في تلكم المرحلة الضاجّة بالحراك الوطني والقوميّ العامّ، قام د. زحلان يحدوه الإيمان بضرورة ربْط تحرير فلسطين بالعمل العربيّ المُشترَك، وذلك من خلال تأسيسه «الجمعيّة العلميّة المَلكيّة في الأردن»، بتشجيعٍ من الحكومة الأردنيّة وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في آنٍ معًا، لتكون الأداةَ العلميّة في تحرير الوطن المُحتَلّ، وفي التنمية العربيّة العلميّة، وكان بالفعل رئيسها الأوّل عن جدارة واستحقاق. وشاركه أعباء تلك التجربة الفاعلة والحافلة عديدون، لا بدّ أنّهم يذكرون تلك الأيّام بفخر واعتزاز. ولا شكّ في أنّ بصمات زحلان ظلّت بارزة ومؤثِّرة للغاية على حراك تلك الجمعيّة، ما حدا بالأميرة سميّة بنت الحسن، مسؤولة الجمعيّة في السنوات الأخيرة، إلى تكريمه وتقديم هديّة تذكاريّة له في مناسبة نُظِّمت لهذا الغرض في بيروت قُبيل وفاته.
عَمِلَ أنطوان زحلان على استقطاب الشباب العربي من ذوي الاختصاصات العلميّة المُختلفة. وزارَ من أجل تفعيل ذلك النشاط العلميّ وإنجاحه، العديدَ من الدول المتقدّمة في العالَم على رأسها الولايات المتّحدة الأمريكية مُطَّلِعًا على آخر منجزاتها العلميّة والتكنولوجيّة.
بعد ذلك، تفرَّغ للعمل التنموي العلميّ العربيّ المُلتزِم، فأسَّس شركة، ثمّ جمعيّة للتنمية الاقتصاديّة العربيّة، استقطبَ خلالها عشرات الشباب العربيّ من ذوي الاختصاص في المجالات ذات الصلة. وعملَ في مشروعاتٍ تنمويّة واستشاريّة أخرى، بخاصّة في العراق والجزائر.
مركز الإسكوا لنقل التكنولوجيا
في العام 1980 نظَّمت اللّجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسيا في بيروت (الإسكوا) «مؤتمرًا حول الموارد البشريّة في البلدان العربيّة». دَرَسَ المؤتمر مشروعًا أعدّه أنطوان زحلان لإقامةِ مركزٍ عربيّ لِنَقْلِ التكنولوجيا. وهو مشروع أُعيد إحياؤه في العام 2010، فأُقيم مركزُ نقلِ التكنولوجيا في عمّان برعاية الإسكوا نفسها، وبالتعاون مع الحكومة الأردنيّة. وما زال المركز يعمل إلى يومنا هذا.
وبعد احتلال الولايات المتّحدة العراق في العام 2003، أسَّس الخبيرُ باللّيزر علي الأعسم مع أنطوان زحلان وكاتب هذه السطور في لندن: «منظّمة التعاون العراقيّة» Iraq Welfare Organization (IWO) (على غرار «منظّمة التعاون الفلسطينيّة» البالغة النجاح في رأينا).
وعملت المنظّمة المذكورة والمؤسَّسة من ثلاث كفاءات عربيّة: عراقيّة، وفلسطينيّة، ولبنانيّة، بصيَغٍ مُختلفة في مشروعاتٍ تنمويّة عديدة، وذات حضورٍ مُنتِج في العراق. لكنّ أنطوان وأنا، استقلْنا منها لأسبابٍ ظرفيّة خاصّة في العام 2015، والمنظّمة لم تَزَلْ على عهدِها من النشاط والحيويّة إلى يومنا هذا.
وفي مطالع العام 2012 كان أنطوان يعمل، وباللّغة الإنكليزيّة، على إتمام كتابِه الأخير الذي مَثَّل خلاصةَ تجربته العلميّة والتنمويّة: Science Development and Sovereignty in the Arab World وأراد نشْره باللّغة العربيّة؛ فاتُّفق مع المدير العامّ لـ«مركز دراسات الوحدة العربيّة» آنذاك د. خير الدّين حسيب، أن أتولّى أنا الترجمة، وأن يَنشر المركزُ الكتابَ وقت صدوره باللّغة الإنكليزيّة. وفي الواقع، ولدى قيامي بعمليّة الترجمة، كنتُ أدخل في نقاشاتٍ شبه مُتواصِلة مع أنطوان زحلان حول الأفكار الواردة فيه، وكان كثيرًا ما يُعدِّل في أصل النصّ الإنكليزي في ضوء تلك المناقشات. لذا، وبالاتّفاق بيننا، جاءَ العنوان بالعربيّة مختلفًا إلى حدٍّ ما عمّا هو بالإنكليزيّة: «العِلم والسيادة: التوقُّعات والإمكانات في البلدان العربيّة».
الاعتذار المبرر
جدير بالذكر، أنّ عدنان سمارة مؤسِّس «المجلس الأعلى للإبداع والتميُّز» في فلسطين، كان قد جاء خصّيصًا من الأرض المُحتَلّة إلى بيروت، وقُبيل تأسيس المجلس المذكور، ليَعرضَ على د. أنطوان زحلان أن يكون الرئيس الفخريّ للمركز، ووعدَهُ بأن يتحمّل كامل أعباء الانتقال إلى فلسطين المحتلّة، والعودة منها، لحضور حفل الانطلاق. غير أنّ أنطوان الذي اعتذرَ بلباقةٍ من صاحب العرض عن تلبية رغبته بداعي أنّه، ومهما كانت المُبرّرات، فإنّه لن يزور فلسطين طالما هي تحت الاحتلال الإسرائيلي؛ الأمر الذي جعلَ عدنان سمارة يتفهّم الموقف، ويَأمر لاحقًا بمنْح وسام الاستحقاق والتقدير من فلسطين لشخص أنطوان زحلان. وقد حدثَ هذا التشريف بالمَنْحِ للمُكرَّم به بعد وفاته في بيروت في الأوّل من سبتمبر من العام 2020.
العلم والترابط بين الدول العربية
على مستوى العِلم والسياسات العلميّة يرى د. أنطوان زحلان أنّ دراسات السياسات العلميّة في العالَم الثالث، ومنه بلداننا العربيّة، تتّصف إجمالًا بالندرة، وثمّة حاجة ملحّة وعاجلة إلى مِثل هذه الدراسات للتمهيد لوضْعِ تأريخٍ للعِلم في عالَمِنا العربي. وطبيعي أنّ النشاط العلمي والتكنولوجي في عالَمِنا المذكور، يُساعد على التعامُل معه بمقاييس موحَّدة. فهناك، من ناحية، حركة انتقال واسعة النّطاق بين العُلماء والمهندسين العرب عبر الحدود العربيّة والأجنبيّة؛ وتزداد المُشارَكة في التجارب والخبرات من خلال هذه القوى البشريّة، ومن خلال المؤتمرات العربيّة والاتّحادات والمؤسّسات العربيّة. ومن ناحيةٍ أخرى، من شأن المستوى الرفيع من التخصُّص، الذي يتطلّبه العِلمُ الحديث والتكنولوجيا الحديثة، أن يؤدّي إلى مزيدٍ من التكامُل والترابُط بين الدول العربيّة.
ويلفت زحلان إلى أنّ قرابة الـ50% من جميع أعمال البحث العلمي التي تجري في بلداننا العربيّة، إنّما يقوم بها أساتذةُ الجامعات الذين هُم مدرّسون في الدرجة الأولى، ولأبحاثهم أهميّة فائقة في الحفاظ على مكانتهم المهنيّة. ونظرًا للتوسُّع المُستمرّ في المعرفة العلميّة، يُعَدّ نشاط البحث شرطًا لازمًا لازدهار المِهنة.
ولا بدّ، في رأيه، من التمييز بين سلوك العُلماء الأفراد وسلوك المؤسّسات والأُمم. فالباحث الفرد محدودٌ بقدراته العقليّة الخاصّة، وبالفُرص المُتاحة له، والموارد التي تحت تصرّفه والتدريب الذي تلقّاه. ولا بدّ أن يؤخَذ بعَيْن الاعتبار لدى دراسة تطوُّر العالِم الفرد، ما مرَّ به من تعليم وتخصّص، والفُرص المهنيّة التي قُدِّمت له.
وتَعتمد حالةُ العِلم في بلدٍ مُعيَّن اعتمادًا كبيرًا على السياسات الوطنيّة والفُرص التي تتيحها المؤسّسات؛ ذلك أنّ الأعمال الجادّة والطويلة الأجل، هي وحدها التي توفِّر الحوافز الضروريّة للأفراد لتوليد ما يُمكن أن يُسمّى نشاطًا علميًّا مُناسبًا.
من جانبٍ آخر، ينبغي أن نَذكر أنّ أنطوان زحلان كان قد ركَّز في العديد من دراساته وأبحاثه على العِلم والنشاط العلمي الحديث والمُتطوِّر في إسرائيل. وقد ألَّفَ في هذا المجال كتابَيْن هُما: «العِلم والتعليم العالي في إسرائيل» (1970)؛ والكتاب يُعتبر أوّل محاولة عربيّة للربط بين قوّة إسرائيل العسكريّة ومواردها البشريّة. ثمّ كِتاب «العِلم والتكنولوجيا في الصراع العربي - الإسرائيلي» (1981)، ويُبيِّن فيه المؤلِّف أنّ مسألةَ التحديث العسكري في مجال التكنولوجيا العسكريّة في إسرائيل أمرٌ لا يتوقّف البتّة لدى جيش الدولة العبريّة، ودائمًا بهدف إبطال أيّة مفاعيل لتهديداتٍ علميّة وتكنولوجيّة تُقْدِم عليها الجيوشُ العربيّة.
هكذا فإنّ مُواجَهة إسرائيل كعدوٍّ من طَرَفِنا كعرب، لا تَنجح أو يُكتب لها الانتصار في رأي أنطوان زحلان، إلّا بمعرفة هذا العدوّ على الصعد كافّة، وبخاصّة العلميّة والتكنولوجيّة منها.
*كاتِب من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.