يزخر عالم التخصصات الإنسانية في الجامعة العربية بالعديد من المفارقات العجيبة، والأحداث الدرامية والفنتازية، والنظريات المتداولة في أقسامها تتمتع بأعمار أقصر من أعمار الفراشات والزهور، فهي تحيا وتموت بسرعة فائقة. والكل في الأقسام الإنسانية معرض للموت، المؤلف يموت والنص يموت والناقد يموت والقارئ يموت. أقسام اللغويات واللسانيات والشعريات والسرديات والنسويات تتعاطى مع لغة ليست لغتنا ونصوص لا علاقة لها بعالمنا. فالنصوص منفتحة بلا حدود والقراءات متعددة بلا حصر، والعوالم غامضة وملغزة يملؤها الشك والريبة والمجاز وشيء من الهرمسية.

توالت النظريات الأدبية من بنيوية وتفكيكية وتناص ونقد استجابة المتلقي والتحليل النفسي، وكلها لم تخرج عن عالم الغموض والأسطورة. وظلت طريقتها في التحصيل المعرفي تستلهم الحقيقة من الغيب، والغيب هو النص، والنص عالم منفتح نسبي يغرق فيه القارئ في بحر لجي من المجاز المتلاطم الأمواج، ويسير في قفار مظلمة تحيط بها الأساطير وأنصاف الآلهة وتعود به للقرون القديمة لعصور ما قبل التاريخ، وتقابل الإله هرمس أبا النظرية البنيوية والتفكيكية وكل النظريات النقدية الحديثة، هرمس أبو الهرمسية ورسول الآلهة عند اليونان القدامى وإله التأويل والرسول المكلف بتفسير رسائل الآلهة إلى البشر.

نصوص الآلهة الهرمسية نصوص باطنية ومجازية وتسبح في عالم مفتوح لا تحيط به قراءة واحدة، فالنصوص كلها مجاز وكلها تفلت من قائلها وتصبح ملكا لقارئها، ونحن نسبح في عالم الأساطير اليونانية حيث تغيب الحقيقة ويحضر خبراء البنيوية والتفكيكية للتنقيب عن العلامات الخفية للذكورية المتسلطة وتحرير الأنوثة المستلبة من قيود اللغة التي استولى عليها الفحول الأشرار ووظفوا دلالاتها لقهر بنات حوى وإخضاعهن للهيمنة الذكورية وثقافة المجتمع الذكوري.


اللغة والأدب لم يعد عالما جميلا واضحا، إنه عالم تسكنه العلامات الغامضة والرموز المشفرة والمؤامرات الشيطانية بين الذكور والإناث، حيث يتآمر المجتمع الذكوري لخطف اللغة والاستئثار بها لتسخير عالم النساء لخدمة عالم الذكور، في حين تحتال النساء بسلاح اللغة لمقاومة هيمنة الذكور وردعها. عالم غابت عنه الحقيقة واجتاحه الهرمسيون ومعهم مفاتيح اللغة، وبها يستطيعون تفسير كل غوامض اللغة وما تضمره من مضمرات ويفضحون ذكوريتنا المتخفية خلف ستار الثقافة والنسق. ويكشفون كل ما تخفيه الثقافة بصورة لا تطرأ على البال والخاطر.

الهرمسية اليوم تسرح وتمرح في عالم النقد الأدبي وتتسرب خفية في التخصصات الإنسانية تحت شعار «الدراسات الحديثة» وهذه الدراسات الحديثة سوف تأخذك على متن آلة الزمن، وترجع بك إلى الماضي السحيق إلى عصور ما قبل التاريخ، إلى عصر هرمس والهرامسة حيث تكتشف عالم الأساطير وتتعرف على آلهة الإغريق القاطنة فوق جبال الأولمب، وتأخذ منهم أسرار التأويل وفنونه وكيف تفضح الثقافة الذكورية في قصائد الشعراء الجاهليين والمخضرمين وما يضمرونه من عداء نسقي تجاه الأنوثة، وهذا العداء النسقي استمر بالوراثة عند أحفادهم في العصر الحديث.

كيف تكتشف أثر الثقافة الذكورية في العقل اللا واعي المتنقلة بين الأحفاد والأسلاف في المجتمعات الذكورية؟ أنت هنا تحتاج مهارة هرمسية كي تلحظ العلاقة بين العلامات والرموز داخل سياق النصوص المشفرة وتضع يدك على موضع الداء ومرض الفحولة المزمن والمتوارث بين الأجيال وتشخيص متلازمة شهريار عند أفراد المجتمع الذكوري.