رغم ما بلغته التقنية من تطور مذهل، فإن هناك مهنًا ووظائف عصية على الاستبدال والتبديل، فكيف لقلب من معدن أن يعوض حنان الأم حين يشتكي طفلها ألمه؟ وكيف يمكن لعقلٍ مُبرمَج أن يستشعر لوعة الأديب حين يخط بيده مشاعر الشوق والحنين، أو رهبة القاضي حين يصدر حكمًا مصيريًا يغير مجرى حياة الآخرين؟ هذه المهن لا تكتسب قيمتها من مجرد إتقان أو سرعة في الأداء، بل تستمد نبلها من الروح التي تسكنها، ومن الإنسانية التي تغلف تفاصيلها الدقيقة.
قد يحلق الذكاء الاصطناعي عاليًا في سماء الحسابات، وقد يتفوق في ترتيب الأرقام وتنظيم الصفوف، لكنه سيبقى عاجزًا عن قراءة أسرار العيون، وتفسير رعشة اليد التي تنطق بما لا تقوله الشفاه. سيظل عاجزًا عن أن يكون صاحب مبدأ أو صاحب قضية، أو أن يثور دفاعًا عن الحق والعدل. فالذكاء الاصطناعي، مهما تقدم، يبقى دون فؤاد يشعر، ودون وجدان يميز الحق والباطل.
وفي الجانب المشرق من هذه المحنة تكمن الفرصة؛ فمع انتشار الذكاء الاصطناعي، تزداد قيمة الإنسان وتفرده، ويعلو شأنه في مجالات تعتمد على التعاطف، والرحمة، والحكمة، والإبداع الذي لا يمكن برمجته أو تلقينه، بل يزرع في النفس البشرية منذ أول صرخة في الحياة. حينها، يكون الإنسان أثمن من أي وقت مضى، وعطاؤه ضرورة لا رفاهية، وأساسًا للحياة لا مجرد ترف. إن المستقبل ليس للآلة التي تخلو من الأحلام والأحاسيس، وإنما للإنسان الذي يصنع من ضعفه قوة، ومن معاناته فنًا، ومن تحدياته بطولات ترويها الأجيال. فالمجتمع الذي يفقد إنسانيته هو مجتمع بلا روح، والروح لا تُستبدل، ولا تُباع، ولا تُشترى، ولا يملك الذكاء الاصطناعي مفتاح أبوابها السرية. ولعلنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مطالبون بالحفاظ على ما تبقى من إنسانيتنا، وأن نربي أبناءنا على قيم المحبة والتكافل، وأن نعزز في نفوسهم الإيمان بأنهم (كبشر) قيمة لا يمكن تهميشها أو الاستغناء عنها. فالإنسان باق بقدرته على الحب والعطاء، وما الآلة سوى شاهد على عظمة صانعها.