من بدء التفاوض الأمريكي- الإيراني في أجواء هادئة، إلى قبول ميليشيات عراقية موالية لإيران بتسليم سلاحها واستعداد «حزب إيران/ حزب الله» اللبناني لحوار في شأن أسلحته، وإلى اقتراب التوصل إلى اتفاق جديد لوقف اطلاق النار في غزة وتبادلٍ للأسرى، وصولاً إلى زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية خلال مايو المقبل... تتبدى ملامح مرحلة جديدة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.

تتحدث أوساط الإدارة الأمريكية عن «صفقة كبيرة» وتضعها تحت عنوان «التطبيع» العربي- الإسرائيلي، وتبدو للمرة الأولى منذ ثمانية عشر شهراً مقتنعة بوجوب وقف الحرب في قطاع غزة، بل مستعدة لإعطاء «ضمان مكتوب وعلني» بأن اتفاقاً ولو مؤقتاً في غزة سيتضمن في مرحلة ما تفاوضاً على إنهاء الحرب. ومع إضافة التفاوض مع إيران والحوار بين تركيا وإسرائيل على «آلية لتفادي الصدام» بينهما في سوريا، تظهر معالم ما تعده إدارة دونالد ترمب، فيما هي تركز على إنهاء حرب أوكرانيا وتتهيأ لـ«حرب تجارية» مع الصين قد لا تبقى «سياسية» أو في حدود المزايدة برفع الرسوم الجمركية.

كان لا بد أن يبدأ ترمب من خطوة محددة: فرملة بنيامين نتنياهو الذي يمدد الحرب على غزة ويستمر في التوتير مع لبنان وفي التغول داخل سوريا، متنقلاً من استفزاز مصر إلى تحدي تركيا، ومواصلاً استعدادات علنية لضرب إيران بموافقة وتنسيق أمريكيين... وكل ذلك لإرضاء ائتلاف المتطرفين في حكومته وبقائه في الحكم. هي فرملة يحتاج اليها «الحليف الأكبر» لتمرير مصالحه من دون أن يُظهر أي تراجع في دعمه المطلق لـ «الحليف الأصغر».


لا يحبذ ترمب الهبوط في الرياض أو جدة للحديث عن الصفقات والاستثمارات و«التطبيع» فيما لا تزال «حرب الإبادة» مستمرة وقضية الرهائن عالقة في غزة، لكن ثمة غموضاً يلف ما يمكن واشنطن- المتطرفة بدورها- أن تغيره في أجواء المنطقة لجعل صفقة «التطبيع» ممكنة ومنطقية وواعدة فعلاً بالسلام. ذاك أن ترمب نفسه لم يتخل عن خطة تهجير الغزيين ولم يعلن قبولاً للخطة المصرية - العربية لإعمار القطاع، ثم إن «المنطقة العازلة» التي أقامتها إسرائيل باحتلال أراضٍ في قطاع غزة لا تتناقض فقط مع أي «ضمان» أمريكي محتمل لشروط اتفاق تبادل الأسرى، بل تنسف فكرة إنهاء الحرب وكل ما يتعلق بالانسحاب من القطاع بعد تقليص مساحته بضم رفح إلى المنطقة المحتلة، كما تعقد دخول المساعدات الإنسانية وإعادة الخدمات الأساسية. كيف سيستقيم «التطبيع» في هذه الحال، وكيف يمكن التأسيس لـ «سلام» دائم تحول الاحتلالات الإسرائيلية دون أن يكون «عادلاً» و «شاملاً».

أما بالنسبة إلى إيران فإن ظروف الخليج تغيرت عما كانت عليه عام 2018 عندما انسحب ترمب من اتفاق 2015 النووي، إذ كانت هناك مواجهة بين السعودية وإيران تمكن واشنطن الاستثمار فيها، كما كانت إيران في ذروة استعراض فائض قوتها. هذه الحال تبدلت الآن ولم يعد مفيداً الاعتماد كلياً عليها، لكنها تتيح إمكان استخدام ربط النزاع السعودي- الإيراني لإنجاح المفاوضات النووية «بالشروط الأمريكية» وبالتالي تفعيل «التهدئة» التي بدأت باتفاق بكين (10 مارس 2023) بين الرياض وطهران. وإذا تعثرت المفاوضات في مسقط فإن ترمب لا يكف عن التهديد بعمل عسكري ضد إيران ستكون الإمرة والتنفيذ فيه لواشنطن مع الاستعانة بالقدرات التي وفرتها لإسرائيل.

لم يكن أمام طهران سوى أن توافق على التفاوض، ومن دون التلكؤ الذي أبدته بين 2018 و2020 بل من دون التعنت الذي تعاملت به مع إدارة جو بايدن. هذه كأس سم أخرى تتجرعها إيران، متجاوزة تهديدات ترمب واستفزازاته لتقبل بتفاوض تعلم مسبقاً أنه صعب لأن شروط واشنطن قصوى مثل الضغوط الاقتصادية، لكن الخيار الآخر هو الحرب. لطالما رغبت في هذه الحرب عندما كانت أربع عواصم عربية تحت سيطرتها، لكنها مضطرة الآن للاعتراف بأن العقوبات دفعتها أثماناً باهظة، وبأن هزائم أذرعها الإقليمية لم تعد خافية ولم تترك لها مجالات للمناورة. قد لا تعد طهران حربي غزة ولبنان وإضعاف الحوثيين هزيمة لها، إلا أن عودتها إلى معادلة الحفاظ على نظامها مقابل التضحية بأذرعها وأوراقها ونفوذها هي إقرار بالهزيمة.

معروفة أهداف مفاوضات مسقط، فإدارة ترمب حددتها أولاً بقيود تضمن «منع إيران من امتلاك سلاح نووي» لكنها في المقابل مضطرة للقبول باستمرار البرنامج النووي السلمي. أما العقدة فلا تكمن في نفوذ إيران الإقليمي لأنه تراجع إلى حد كبير ولم يبقَ منه سوى الحوثي بعد الخروج من سوريا وانكفاء «الحشد» العراقي. لذلك فإن عقدة المفاوضات ستكون في وضع سقف لقدرات البرنامج الصاروخي، وهنا ستكون «كلمة السر» في مدى الانفتاح الإيراني على الاستثمارات الأمريكية وما تحمله في طياتها من تغيير لوجه إيران.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»