وفقاً للنظرية البنائية للعلاقات الدولية، فإن سلوك الدول يرتكز على: تَشكُل الهوية، وصياغة الخطاب في المجتمع الدولي. فعلى خلاف الواقعيين الذين يرون أن الدول تتصرف وفق مصالح ثابتة من منطلق «مبدأ القوة»، ترى البنائية أن الهوية تُشكل المصلحة، وأن الخطاب هو من يُشكل الفعل؛ وهو من يُعرِّف الآخر كخصم، أو حليف، أو شريك محتمل. فالمراقب للسياسة الخارجية للمملكة، بالقيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يجد أنها تنتهج خطاباً فريداً في إدارة علاقاتها الدولية: خطاب لا يقوم على الإقصاء، أو التحيز، أو الهيمنة. فهي تفكك ثنائية الخطاب المتحيز: خصم وصديق. وذلك خلافاً للنظرية الواقعية، التي ترى أن العلاقات الدولية تقوم على توازن القوة من خلال الردع والتحالف. فالمملكة كانت ولا تزال فاعلاً دولياً لا يكتفي بالرد، بل يعيد صياغة الخطاب الدولي، ويتطلع إلى «الشركاء المحتملين». وهذا لا يمكن فهمه إلا من خلال رؤية المملكة 2030، التي أطلقها سمو ولي العهد محمد بن سلمان، والتي تسعى إلى تعزيز العمق العربي والإسلامي، وتثبيت المملكة كقوة استثمارية ومحور ربط بين القارات الثلاث. وجاءت زيارة وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان لطهران تجسيداً لتلك الرؤية والتزاماً بتطبيق اتفاق بكين الذي تم توقيعه في العاصمة الصينية في 10/3/2023 بين المملكة العربية السعودية وإيران.

ففي لقائه مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، ناقش وزير الدفاع – وفق ما نقلته وكالة الأنباء السعودية – «الجهود المبذولة لمعالجة التحديات الإقليمية والدولية»، ما يعني أن كلا البلدين يدرك أن الأمن الحقيقي يبدأ من التنمية المستدامة، والاستقرار الاجتماعي، وتعزيز العلاقات بين الدول المجاورة، ولا يكون ذلك إلا في بناء نظام أمني إقليمي قائم على التعاون والتنمية المشتركة. فبتصريح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي جاء فيه «نؤمن بأن العلاقة مع المملكة العربية السعودية مفيدة للعالم الإسلامي والمنطقة». نجد أنه تصريح يقدم علاقة مستقبلية بوصفها خياراً طبيعياً. فالمملكة في هذه الزيارة التاريخية تتعامل مع إيران على أنها كيان جيوسياسي يمكن التقارب والتفاوض معه من خلال مساحة «الفضاء الثالث».

في كتابه، «موقع الثقافة» (1994)، يعرف هومي بابا الفضاء الثالث على أنه «المساحة التي تتولد فيها الهوية الثقافية من خلال التفاوض والتفاعل، وليس من خلال التماثل أو الاختلاف البسيط». فمن خلال الفضاء الثالث يُنتج الخطاب أو ما يسميه بابا «الترجمة الثقافية» وهي القدرة على بناء تواصل دون تطابق، وتفاهم دون تنازل. وهذا ما تعنيه النظرية البنائية في أن العلاقات الدولية ليست انعكاساً للمصالح، بل بناء للهوية. فهي ترفض افتراضات الواقعية حول المصلحة الثابتة، وترى أن الدولة تنتج عبر التفاعل، وأن المفاهيم كـ«العدو» أو «التهديد» ليست معطيات مادية بل بنى اجتماعية تتشكل داخل الخطاب.


فالمملكة اختارت الدبلوماسية المُبادِرة التي تكسر الثنائيات التقليدية مثل «الخصم» و«الشريك» وتعمل على خطاب الاحتواء، والتفاوض، والتفاعل. فالمملكة بقيادتها الحكيمة، من خلال هذه الزيارة، لا تعيد فقط تقييم علاقتها مع إيران، بل تعيد تعريف هويتها ودورها في منطقة الشرق الأوسط كوسيط وصانع للسلام- انظر مقالنا، «ولي العهد وجائزة نوبل للسلام»، ( 24/3/2025)، العدد 8641.