أقرأ أدبيات الفكر القومي ومنها أدبيات البعث العربي، فأجد فيها روحاً عربية مسيحية «صادقة» تسعى إلى تجاوز الرابطة الدينية التقليدية وبناء رابطة جديدة تجمعها بالعرب المسلمين، كما يظهر في رؤية ميشيل عفلق في كتابه «ذكرى الرسول العربي» كمناعة عربية ضد أطماع المستعمر في الهيمنة عبر التقسيم والتفتيت.

في المقابل، أقرأ أفكار ياسين الحافظ القومي «الماركسي» فأجده أكثر واقعية في نقد القومية الناصرية، خصوصاً عندما قال: «كان التناقض بين الطابع السياسي المنفتح والتقدمي عند عبدالناصر والطابع المحافظ أيديولوجياً للمواطن المصري البسيط يلغم التجربة الناصرية، فبينما كان النظام يحصد الإخوان المسلمين سياسياً، كان يزرعهم ثقافياً مما أدى إلى اختناقات سياسية انتهت بضربة حزيران 1967 القاصمة» أي إن «التناقض بين النظام والمجتمع كان لغماً موقوتاً» كما أوضح الحافظ ص26 في كتابه «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة».

لكن هل تعكس قراءتي تعاطفاً مع البعث أو كراهية للناصرية؟ بالطبع لا، بل هي محاولة للفهم، كما كانت تجربتي السابقة عندما كنت طالباً في كلية الشريعة قبل ثلاثة عقود، أستمع لشيخي وهو يعرض أقوال الفرق المخالفة ليؤكد أن «الحق معه وحده»، مستدلاً بآراء علماء ظهروا بعد زمن النبوة بقرون. لاحقاً.. عبر السفر والانفتاح على آراء المخالفين، تبلورت لدي قناعة أن «فرق الإسلام اختلفت في طرق تنزيهها لله وفق إمكانها الذهني الذي فرضه واقعها الحضاري»، فالفهم الحرفي البسيط يتناسب مع الأعرابي الذي قال للنبي: «والله لا أزيد على هذا ولا أنقص». بينما الفهم الأكثر توسعاً يتناسب مع عبدالله بن سلام، الحبر اليهودي السابق والصحابي لاحقاً رضي الله عنه.


من هنا.. «اتسعت رؤيتي لقبول الفرق الإسلامية التي ترفع الشهادتين»، متجنباً الافتئات على الله فيما وراء ذلك، مستحضراً حديث النبي: «أفلا شققت عن قلبه؟!»، ولهذا وجدت مثلاً في مقاربات «محمد شحرور» و«مجتهد شبستري» و«محمد أركون» منظوراً حضارياً متنوعاً للإسلام لم أجده عند أصحاب الفطرة الأولى، الذين لا يزالون يناقشون قضايا مثل «جواز ركوب المرأة للدراجة»، رغم أنهم احتاجوا عقوداً لاستيعاب «التصوير بالكاميرا»؟! بينما تتسارع حركة التاريخ بلا رحمة لمن «يعيشون الفوات الحضاري».

أما القومية العربية، فقد اتهمت بتمزيق «الوحدة الإسلامية»، خصوصاً من قبل الإخوان المسلمين الذين يحنون إلى الخلافة العثمانية، متجاهلين «مأساة سفر برلك» التي شهدت تهجير سكان المدينة المنورة قسراً على يد فخري باشا، وإعدام بعضاً من نخبة الفكر العربي في بلاد الشام على يد جمال باشا السفاح.

منذ سقوط الأندلس والانحياز السياسي إلى الكهنوت ضد «عقل ابن رشد»، ظل العقل العربي عاجزاً عن إدراك مفهوم «القومية/الوطنية»، حيث بقيت «الوطنية مجرد حميّة عشائرية» غير قادرة على استيعاب «مواطن» من غير ثقافتها العشائرية التقليدية، عدا أن تستوعب مواطن مختلف ثقافياً أو مذهبياً، فضلاً عن منح الجنسية لمن يمتلك امتيازات علمية أو رياضية أو فنية، ثم نتساءل كيف ينهار السلم الأهلي لأدنى استقطاب أيديولوجي من هنا أو هناك.

وهنا، وأنا أكتب، يظهر أمامي «مصد حديدي قديم» مكتوب عليه: «الإسلام هو الحل»، فأبتسم مستذكراً أربعة عقود منذ «دولة العلم والإيمان الساداتية» التي آلت إلى قتل صاحبها في المنصة، ليشهد الإسلام السياسي بعدها تنويعات مشابهة لتلك التي حدثت في القومية العربية، حيث «انقسمت القومية إلى حركة القوميين العرب، حزب البعث، الناصرية، وكل تيار يلعن الآخر» تماماً كما انقسم الإسلام السياسي إلى اتحادات عالمية «علمائية» متنافسة، تتنازع النفوذ من طهران إلى تركيا، وصولاً إلى الشيشان/غروزني حيث عقد مؤتمر إسلامي 2016م، يعكس مدى هذا التنافس الاحتكاري ـــ غير المباشر ـــ لتمثيل الإسلام، أما ميدانياً فضع ما شئت من تناسلات القاعدة وداعش إلى بوكو حرام.

هل قدرنا هذا التكرار التاريخي كجمل المعصرة ما بين «من هو العربي القومي بحق؟!» و«من هو المسلم الإسلامي بحق؟!» بالطبع لا. «واجبنا ألا نتخلى عن تفاؤل الإرادة، مهما كان تشاؤم الواقع» فحركة التاريخ ليست راكدة، وإرهاصات «النمو اللولبي للأعلى» ظهرت فيما سمي «الربيع العربي» رغم محاولات القوى العظمى توجيه هذه الشعارات لمصالحها، سواء في الحرب الباردة، أو توظيف الإسلام السياسي/السني والشيعي ضد بعضهما.

لكن، رغم ذلك، فإن «الواقع العربي يتحرك بطبيعته، مدفوعاً بطبقته الوسطى»، التي قاومت السقوط إلى «القاع الطبقي»، وعليه فلا يوجد ثورة تستأذن حكوماتها، بل فساد الحكومات هو ما يخلق الواقع الثوري، حين «تعمى الأنظمة عن حقيقة شعوبها». ولهذا أختم ببضعة أسطر وردت في أرشيف هذه الجريدة وهي عن: (تقرير التنمية العربية «2002-2006» الصادر عن نخبة عربية، أي إنه ليس صادراً من جهة يمكن اتهامها بالاستعلاء الإمبريالي من قبل المهووسين بذهنية المؤامرة، ولا صادراً عن مستثمرين في أحداث ما سمي «الربيع العربي» فالتقرير سابق عليها، فقد وجد تقرير التنمية العربي أن إشكالات العالم العربي يمكن اختزالها في ثلاثة أوجه قصور وهي: أولاً «نقص الحرية في الحكومات العربية» والثاني «نقص في المعرفة فنظم التعليم العربية لا تعد الشباب لاستغلال الفرص المتاحة في السوق العالمية» وأخيراً «نقص في تمكين المرأة»... فما هو نقص الحرية وبأي معنى؟ هل كان المواطن السوري أو العراقي على المستوى الشخصي يعاني من نقص الحرية في وجود الملاهي مثلاً، أم إن الحرية المقصودة في التقرير تعني مفاهيم «حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية» ويمثلها ما يسمى «حقوق المواطنة».... ) راجع: «جريدة الوطن السعودية، مقال: تقارير عربية وليست غربية، بتاريخ 19 يونيو 2022، العدد 7801».