«انتهت حفلة التقاعد التي نظمتها أسرتي بحضور الأهل وبعضًا من الأصدقاء المقربين، تلقيت خلالها عددًا من الهدايا الرائعة بهذه المناسبة. تفاءلت خيرًا وقلت في نفسي هذه بداية للحياة الجديدة التي يتحدثون عنها، ولكن ما إن انتهت الحفلة، وانقضت معزوفة المجاملات حتى بدأت زوجتي تلح على عبارة تمنيت لو أنني لم أسمعها قط، خاصة في مثل هذا الوقت، حيث باتت تردد بصوت منخفض «تقاعدت يعني فضاوة.. وبتقعد لنا لا شغلة ولا مشغلة.. استودعت الله كل ما في البيت من الأفكار التي ستنفذها من الفراغ».

كان هذا حديثًا عن مشهد مؤثر لرجل متقاعد، يتحدث فيه بألم عن تأثره من عبارات يراها جارحة، خصوصًا أنها تأتيه من رفيقة دربه (زوجته) كما يقول، وهو يضيف «تمنيت لو لم أسمع تلك العبارة من زوجتي، أقرب الناس لي».

من جانبها، قالت متقاعدة «بعد نهاية خدمتي العملية، لم أكن أتوقع أن تنهال عليّ العبارات الصادمة من أسرتي. كانت عبارات أشبه بحجارة من نار، بالرغم من أنهم قد لا يعلمون مدى تأثيرها السلبي عليّ، وأنا التي أفنيت نصف عمري ما بين العمل وخدمة العائلة».


وتابعت «عبارة ذكرها زوجي المتقاعد قبلي، ولم يجد سوى عبارات الود والمواساة ومحاولة ردم الفراغ الذي يشعر به، بينما وبالمقابل أطلق تلك العبارة التي لم استطع تخطيها حتى هذه اللحظة» وهي «أيش وراك لا شغلة ولا مشغلة جالسة في البيت تعدين حبات الرز. متقاعدة فاضية».

مشاهد مؤثرة مثل التي سبقت تطرق أبواب المتقاعدين، وتترك آثارًا مثل الندوب على العلاقات الأسرية، فبدلا من أن تكون نهاية الخدمة والتقاعد البداية للحياة الهادئة الهانئة، تتحول إلى مرتع خصب للخصام (حتى لو كان صامتًا) الذي قد يفتك بالأسرة وينهي العلاقات فيما بين أفرادها، وهو ما حاولت «الوطن» الوقوف عليه لمعرفة مدى تأثير تلك العبارات وأمثالها، ومدى سلبيتها ودورها في خلق توتر نفسي للمتقاعدين من الجنسين؟، وكيف يمكن للأسرة أن تتجنب تلك العبارات الجارحة، وما مدى تأثيرها على العلاقات الأسرية؟.

انتكاسة

إحدى المتقاعدات (فضلت عدم ذكر اسمها)، تشدد على الألم الذي تحمله مثل هذه العبارات المحبطة، وقالت «قبل التقاعد والوصول إلى سن الستين كنت أقرأ كثيرًا عن هذه المرحلة، وعن أنها البداية لحياة جديدة ملؤها السعادة والتفاؤل، إلى أن طرقت عبارة (أمك متقاعدة فاضية ما عندها شيء) التي قالها زوجي موجها كلامه إلى ابني لمساعدته في نقل بعض الأثاث. أحسست بالألم، وأصابتني العبارة بأذى نفسي، ففيما كنت آمل أن تكون حياة التقاعد مختلفة، استحق خلالها الشكر على مضي سنوات العمل والمساهمة في الالتزامات المادية لأسرتي، تصدمني مثل تلك العبارة».

وتابعت «ربما قيلت تلك العبارة على سبيل المزاح، ولكنها بالنسبة لي تجاوزت إلى أكثر من ذلك بكثير».

المقاومة بالانشغال

يوضح أبو عادل، متقاعد، أنه استطاع التغلب على آثار وقع تلك العبارات المحبطة بمقاومتها والانشغال بكل ما هي صغيرة وكبيرة في المنزل، واستطاع، على حسب قوله، أن يأمن الجميع من هذه الناحية. وقال «جميع من في الأسرة يحاولون جاهدين إسعادي وإقناعي بالتخلي عن بعض المهام التي أصبحت أنجزها معهم، فلا يرغبون ولا يطلبون إلا الرضا».

عبارات في غير محلها

باسمة الضويمر، المتخصصة في علم الاجتماع أوضحت أن «التقاعد مرحلة جديدة، ولكن هناك بعض العبارات التي قد لا تكون في محلها ووقتها الصحيحين، وقد تصدر عن أفواه القريبين للمتقاعد دون أي اهتمام أو مراعاة لمشاعره، خاصة في هذه المرحلة الانتقالية التي يستحق عليها المكافأة بالعبارات النيرة التي تشعره بأنه أنجز ما عليه في خدمة الأسرة والمجتمع».

وتابعت «بعض العبارات السلبية تقف جنبا إلى جنب مع التحديات التي يواجهها المتقاعد، وقد تشكل حجر عثرة في مشوار المتقاعد بغض النظر عن جنسه، وذلك إلى جانب التحديات الاجتماعية التي تتمثل في فقدانه التواصل مع محيط عمله من زملاء وزميلات المهنة، وتحديات صعوبة البحث عن البديل والانخراط في المجتمع من خلال الأنشطة والبرامج».

فقدان الدور

تشدد الضويمر على أن العبارات السلبية التي يطلقها المحيط القريب من المتقاعد تعزف على وتر فقدان المتقاعد للدور الاجتماعي، وتقول «قد يشعر المتقاعد بفقدان دوره الاجتماعي، ومن السيء للغاية أن نزيد بمثل تلك العباراة عزلته الاجتماعية، وصعوبة تأقلمه مع المجتمع، وتعقيد محافظته على العلاقات الاجتماعية، واتصاله الفعال بعد التقاعد، خاصة إذا كان يعتمد على وظيفته السابقة في تحديد تواصله مع المحيطين به داخل مجتمعه».

واستدركت «كذلك لا يمكننا تجاهل دور الأصدقاء والتحديات التي قد يواجهها المتقاعد خاصة في التواصل كما كان في السابق بحكم انشغالهم في أعمالهم في حال لم يصلوا مثله إلى مرحلة التقاعد».

خيبة وأذى نفسي

من جانبها، تتناول هدى التسليم، أخصائية الإرشاد النفسي التربوي الأمر من الجانب النفسي، وترى أن مثل تلك العبارات التي قد يسمعها المتقاعد ذكرًا كان أو أنثى من شأنها أن تودي بصحته النفسية، وتابعت «قد تدخل تلك العبارات السيئة المتقاعد في حالة من الاكتئاب».

وعلّلت ذلك بقولها «إطلاق بعض العبارات السلبية أو مناداة المتقاعد بأنه متقاعد على نحو تهكمي أو سلبي يجرحه، و«يكسر نفسه»، ويتناول فقدانه لقيمته وهويته، وفقدان الهوية من أكثر أسباب الاكتئاب شيوعًا بعد التقاعد».

وأكملت «لا شيء أسوأ من خيبة الأمل التي قد تواجه المتقاعد من أقرب الناس إليه، خاصة في الانتقادات الموجهة إليه، والعبارات الجارحة الصادمة التي تصادفه، كتلك العبارات التي تم ذكرها، مما يجعله عرضة للاكتئاب والعزلة والبعد عن محيطه الأسري في الوقت الذي يكون فيه بأمس الحاجة إلى التواجد في هذا المحيط».

وختمت «علينا التعامل بحذر قبل إطلاق العبارات، وأن نحرص على ألا تكون جارحة وصادمة للمتقاعد، حتى وإن كانت على سبيل المداعبة والمزاح، فأثر تلك العبارات قد يمتد طويلًا، وقد يصعب علاجه خاصة في هذه المرحلة».

توتر في المحيط

مزينة عوض السيد، وهي مختصة بالتوجيه والإصلاح الأسري، مستشارة أسرية، توضح أن «بعض العبارات والكلمات غير المسؤولة والمؤذية نفسيا يكون وقعها أكبر في حال صدرت من محيط الأسرة، وقالت «بعض العبارات التي قد توجه للمتقاعدين من الجنسين ومضمونها أنهم «بلا دور» و«لا مسؤوليات» ومن هذا القبيل، من شأنها أن تخلق توترًا نفسيًا في محيط الأسرة».

وتابعت «تهيمن الأسرة على الدور المهم في التأثير على نفسية ومشاعر المتقاعد كونها المحيط الأقرب له، والأكثر تأثيرًا عليه، فمن واجب الأسرة تقديم الدعم الإيجابي للمتقاعد في مرحلته الجديدة، وهذا الدعم لا يكون ماديًا بالضرورة في تقديم الهدايا والحفلات، بل بالدعم المعنوي الذي يكون له بالغ الأثر وذلك بالتفهم، وتقبل المرحلة الجديدة للمتقاعد، وتقبل التغيّرات التي يمر بها».

وواصلت «من بين ما قد تقدمه الأسرة، الدعم العاطفي، خاصة في التكيف مع المتقاعد في هذه المرحلة، وتقبل توجيهاته واحتياجاته وتشجيعه على ممارسة الهوايات والأنشطة».

واسترسلت «من المؤسف أن تنطلق تلك العبارات من الأسرة ومن المقربين للمتقاعد فيصفونه تقليلًا بأنه بلا مشاغل ولا مسؤوليات بمجرد التقاعد، ومن هنا تنحدر الصحة النفسية للمتقاعد».

وعن كيفية احتواء المتقاعد ودعمه، قالت «من الأمور المهمة دعمه، وكذلك توضيح دوره الفعال خاصة في هذه المرحلة، وعدم التغافل عن الحديث معه، والجلوس معه لمناقشة أمور الأسرة والأحاديث العابرة عن الذكريات ومرحلة العمل التي مرت، وإشعاره بين اللحظة والأخرى بشعور الفخر والاعتزاز لوصوله لهذه المرحلة وهو بصحة جيدة، وأنه ما يزال قادرًا على العطاء بدلًا من تكليفه بمهمات إجبارية واستنزاف نفسيته ببعض العبارات غير المسؤولة».

عبارات أسرية تجرح المتقاعدين

ـ«تقاعدت يعني فضاوة.. وبتقعد لنا لا شغلة ولا مشغلة»

ـ«استودعت الله كل ما في البيت من الأفكار التي ستنفذها من الفراغ»

ـ«أيش وراك لا شغلة ولا مشغلة جالسة في البيت تعدين حبات الرز»

ـ«متقاعدة فاضية ما عندك شي»

لماذا تؤثر تلك العبارات سلبًا في التقاعد؟

ـ تعبر عن عدم اهتمام به أو عدم مراعاة لمشاعره

ـ تؤكد على فقدانه دوره الاجتماعي

ـ تزيد من عزلته وصعوبة تأقلمه مع المجتمع

ـ قد تدخله في حالة من الاكتئاب وتؤثر في صحته النفسية

ـ تكرس فقدانه لهويته، وفقدانها من أكثر أسباب الاكتئاب شيوعًا بعد التقاعد

ـ تصيبه بخيبة الأمل وهو الذي ينتظر التقدير من الآخرين

ـ تكرس أنه بلا دور ولا مسؤوليات