تعد مدينة جدة ركيزة أساسية في تاريخ الموسيقى السعودية، حيث احتضنت تطورات الأغنية السعودية الكلاسيكية، وأسهمت في تشكيل هويتها الثقافية والفنية. تميزت جدة بانفتاحها الثقافي وتنوعها الاجتماعي، مما جعلها بيئة خصبة لنمو الفنون وتطورها، بعيداً من القيود الاجتماعية التي قد تكون سائدة في مناطق أخرى.

تبرز الأغاني المرتبطة بجدة الدور المحوري الذي لعبته المدينة في تشكيل الهوية الموسيقية السعودية، حيث كانت موطناً للإبداع ومركزاً لتلاقي الثقافات والمواهب. لقد احتضنت هذه المدينة عبر عقود القرن الـعشرين أبرز الشعراء والملحنين والمطربين، وشكلت بوتقة موسيقية فريدة انصهرت فيها الثقافات وتفاعلت التجارب، مما جعلها بوابة الفن والطرب ومقصداً لعشاق الموسيقى.

في وقت تأثرت فيه بعض المناطق الأخرى باتجاهات دينية متشددة وقفت حجر عثرة أمام المطربين، احتفظت جدة بمكانتها كحاضنة للغناء والموسيقى، حيث تعد المجالس الموسيقية فيها جزءاً من تقاليد سكانها منذ القدم، وبرز دور الصوالين الثقافية فيها والبيوت التي جمعت رموز الفن والمجتمع. أسهم أيضاً تجار جدة في تعزيز الحراك الثقافي والموسيقي، من خلال دعمهم الأنشطة الفنية، وتبنيهم المواهب في بيئة منفتحة، تشجع على الإبداع.


التحول إلى مركز فني

في منتصف القرن العشرين، بدأت جدة في التحول إلى مركز فني حيوي، حيث استقطبت عدداً من الفنانين والموسيقيين الذين أسهموا في تشكيل ملامح الأغنية السعودية الكلاسيكية. وقاد هذا التحول الموسيقار طارق عبدالحكيم، الذي استقر في جدة وأسس نواة النهضة الموسيقية الحديثة، حتى بدأت معالم الأغنية السعودية تتشكل، مستندة إلى تعاونات مع أبرز الملحنين والشعراء والأصوات الرائدة، مما جعل جدة مرجعاً أساسياً في التحولات الموسيقية.

كما شهدت جدة بعد ذلك في السبعينيات وجود عدد من كبار الفنانين الذين أسهموا في إثراء الساحة الفنية، مثل طلال مداح، سراج عمر، وعمر كدرس، محمد عبده، إضافة إلى شعراء مرموقين كإبراهيم خفاجي، صالح جلال، ثريا قابل، الأمير محمد العبدالله الفيصل والأمير بدر بن عبدالمحسن،

وقد أشار الصحافي علي فقندش إلى أن حي الكندرة كان يضم منازل متجاورة لكبار الفنانين كـفوزي محسون، محمد علي سندي، ابتسام لطفي، سراج عمر، والشاعر يوسف رجب. مما جعل المدينة مركزاً للإبداع الفني ومكاناً لتلاقي المواهب الموسيقية.

تسابق سنوي

كان الفنانون يتسابقون سنوياً لإنتاج أغنية جديدة في حب جدة، تهدى لجمهور مدينتهم المفضلة على المسرح، فتركوا لنا محصلة كبيرة من أغاني الهيام في جدة وشطآنها ورحابة أهلها. تميزت الأغاني المرتبطة بجدة بتصويرها العاطفي والجمالي للمدينة، حيث جسدت مشاعر الحب والحنين والانتماء. على سبيل المثال، غنى عبادي الجوهر (يا أجمل الكون) عام 1999 التي تعكس كلماتها عاطفة جياشة وتعبر عن ارتباطه العميق بجدة:

«كم قلت لك لفي المدن مرة عشاني..

لتعرفي ليه أنت يا جدة في قلبي شيء تاني»

وقد حظيت بشهرة واسعة لما أعاد غناءها في حفلة جدة 2007 وهي من كلمات: طلال الرشيد وألحان: عبادي الجوهر.

وعلى طراز الأماكن، وبالطريقة نفسها. يقرر محمد عبده أن يفاجئ جمهوره ويغنيها للمرة الأولى على المسرح عام: 2005 فأسرت القلوب وأصبحت أيقونة جداوية.

«كل ما جاء الطاري في عرس وخطوبة..

قلنا من هي العروس؟ قالوا جدة» وهي من كلمات: الأمير بدر بن عبدالمحسن وألحان: محمد عبده.

محمد عبده وجدة

تغنى محمد عبده مراراً وتكراراً في معشوقته جدة خلال مسيرته الفنية، ومن أبرز أغنياته في السبعينيات، «ابتسم أنت في جدة» كانت تبث في الإذاعة للترويج السياحي لجدة. يقول فيها، «جدة تلهم كل شاعر.. جدة فوق وصف البشر» وهي من كلمات: عبدالعزيز النجيمي وألحان: محمد شفيق.

ومرة أخرى يشدو أبونورة بقصيدة فصيحة من كلمات الأديب طاهر زمخشري، ومن ألحان: عمر كدرس. «عروس بحر بالجمال توشحت».

ويبدو أن المنافسة كانت حامية الوطيس بين نجوم جدة في الوفاء لمدينتهم! فيغني عبادي الجوهر أيضاً «جدة خميلة عاشق» التي يغرد فيها: «فيك المروج تزينت.. وبك الشواطئ نعما» وهي من كلمات: صالح إدريس وألحان الجوهر.

وفي السبعينيات أيضاً تفرد الفنان محمد السراج بأوصاف شاعرية استثنائية، عبرت عن مشاعر كثير من سكانها وزوارها. وذلك في أغنية «جدة أم الرخا»:

«قوم شوف هنا جدة.. جدة اللي تحيا اليوم أجمل حياة العصر..

في الشط جنب البحر.. بين الرمال والصخر..

كورنيشها باليه.. خط السحابة ومر.. راسم لها النوتة كوبليه ورا كوبليه».

وكجزء من تعاونات الملحنين السعوديين مع النجوم العرب في السبعينيات، غنت الفنانة التونسية: عايدة بوخريص أغنية جداوية خالصة من كلمات الشاعر الغنائي: يوسف رجب، وهي من ألحان: غازي علي «نفسي يا جدة أشوفك»

أغاني الثمانينيات

في الثمانينيات أيضاً، لا يسعنا ذكر جميع ما كتب وتغنى به المطربون عن جدة، بل نشير إلى أبرزها:

«جدة أنتي القمر» للمطرب يحيى لبان. «يحلى السهر في ليلك الوضاح يا جدة.. فيكي الجريح ينسى الجراح يرتاح يا جدة». وهي من كلمات: معتوق البكري وألحان: هاشم بيطار.

ومن أرشيف التلفزيون السعودي، يؤدي الفنان حسين أحمد بصوت آسر رقيق، واحدة من أجمل الأغاني الكلاسيكية في حب جدة «جدة يا قمر في الحسن مصور»، وهي من كلمات: عبدالواحد الرابغي وألحان: حسن نوار.

مواعيد غرامية

بعيداً قليلاً عن الأغاني التي عبرت عن حب سكان وزوار جدة لها، كان التصنيف الثاني يخص الأغاني التي تصف المواعيد الغرامية في شطآن جدة، وقد حظيت شواطئ أبحر على وجه الخصوص باهتمام استثنائي، حيث صورت كملتقيات للعشاق وفرصة للهرب من أعين الوشاة.

وبالحقيقة تميزت جدة بانفتاحها الجزئي ومناخها الإبداعي، مما جعلها ملاذاً للراغبين في التعبير والبوح، وظهر ذلك جلياً في كثافة الأغاني التي تناولت لقاءات العشاق، إذ أصبحت رمزاً للرومانسية بعيداً من أعين المجتمع المحافظ.

في السبعينيات تغنى الفنان الكبير فوزي محسون معاتباً حبيبه باللهجة الجداوية:

«صحيح جيتو لجدة.. عديتو من غير سلام.. مو بعادتو قلت فنفسي.. اشبو اتغير قوام؟»

وهو من غنى أيضاً «نسيتنا واحنا في جدة.. نسيت أيامنا الحلوة؟»

ويؤكد الفنان محمد السراج أن جدة «ملتقى العشاق»! في أغنية «انزل على أبحر» التي يقول فيها، «قلنا نشوفك فين؟ قاللي هنا في أبحر»

وتشكل أغنية «أسعد الله لو يجي جدة حبيبي 1995» جزءاً من الذاكرة الجداوية، وهي تعبر عن مشاعر زوارها أيضاً. «يا بحر جدة ذكرته يوم شفتك.. خلي ياللي منه أنا كلي عطيبي»

لعل أشهر الأغاني التي تصف لقاءات العشاق في جدة وتحديداً منطقة أبحر، «حبيبي مرني بجدة» التي غناها الفنان محمد عبده في حفلات صيف جدة 2002 ضمن «ألبوم أعترفلك».

«منى عمري يطول عمري.. عشان نقضيه سوى بجدة»

وقد كان له النصيب الأكبر من أغاني جدة، فهو ابنها الوفي جداً، غنى في بداياته بالستينيات «ماشي بنتهادى»، يقول فيها، «بالموتر الأحمر قاصد طريق أبحر» وهي من ألحان: عمر كدرس.

ارتباط عاطفي

جدة لم تكن يوماً مجرد مدينة ساحلية جميلة، بل كانت قلباً نابضاً للموسيقى السعودية ومسرحاً دائماً للحب والتجديد الفني. عبر الأغاني، نلمس مدى الارتباط العاطفي العميق بين الفنانين وجدة، ونتتبع ملامحها الاجتماعية والثقافية، ونقرأ تحولاتها الحضرية.

يذكر أنه بعد عام 2019 نلحظ ركود أو توقف عن الغناء لجدة، وهذا عائد إلى التغييرات الاقتصادية التي يشهدها المجتمع السعودي، وتوسع العاصمة الرياض والهجرة المتنامية إليها باعتبارها مركز الثقل الثقافي الجديد، والحاضنة الموسيقية وبوابة النجومية الحديثة للمطربين والفنانين.