يأتي كتاب ليليان قربان عقل «المرأة في النهضة العربية المعاصرة: رائدات من لبنان والمشرق»، الصادر عن دار سائر المشرق في بيروت هذا العام، مهمّاً في توقيته وموضوعه ومضمونه، كما يأتي مناسبةً لقراءة دَور النساء والصحافة والنهضة الفكرية في عيون القانون وبنظرة حقوقية، وإنما أيضاً للنظر إلى مرحلة النهضة وأدبياتها بعقلٍ منفتح ومتحرر، عايَشَ الإبادة التي تحصل في غزة، ودَور الدول التي صدَّرت لمجتمعنا «فكر النهضة» في إعادة تصنيفنا بين الحضارة والظلمات.

يركز الكتاب على دَور المرأة في المشرق في عصر النهضة. وهذا الموضوع بالمطلق ليس جديداً، إذ نتساءل للوهلة الأولى عما سيقدم لنا من إفادة، بما أن العديد من الدراسات ركزت على دور «نساء» من تلك الحقبة، عُرِفْنَ بنضالاتهن الجريئة والحرة. إلا أنه عند البدء بالاطلاع على مضمونه نكتشف أنه عمل مختلف لناحية آلية البحث التي قامت بها الدكتورة عقل عن النساء اللواتي ذُكرن في الصحافة المشرقية، وفي أرشيف يكاد يسقط من اهتمامنا في عصر ما يقدّمه العالم الرقمي وما يُفترض أن يستخلصه الذكاء الاصطناعي. فتتبلور القيمة الإنسانية للكتاب في مواجهة خطورة الآلة التي تقتحمنا وتقلقنا حول أدوارنا كبشر، لتعيد البوصلة الحقيقية إلى الدَّور الإنساني في كتابة التاريخ وبناء الحضارة.

الكتاب تناول موضوعاً أُعيد طرحه بقوة في العقود الثلاثة الأخيرة، وبطريقة جدلية في مرحلة مجتمعات ما بعد الحداثة، وهو موضوع النساء وأدوارهن. وهدفت الباحثة لإماطة «اللّثام عن ذخائر باعتبار المرأة شريكاً فاعلاً في بعْث الفكر النهضوي» وفق تعبيرها (ص12). وفي هذا السياق أوضحت الكاتبة، وبمسؤولية جمّة، أنها تقدم «نظرة بانورامية وعملية مسح شاملة لجوانب الفكر النسوي كافة». لم تُقدم الباحثة في هذا الكتاب عملاً تحليلياً لمضمون البيانات والوثائق التي وجدتها، ولم تدّعِ ذلك، إنما وضعت لها إطاراً يساعد في استنباط الأفكار البحثية تعمُّقاً وتحليلاً وحتى نقداً.


في عملها التأطيري في الفصول الأولى، وأعني بها الفصل الأول: «المرأة العربية والتحولات التاريخية»، والفصل الثاني: «قضايا المرأة في الصحافة العربية»، والثالث: «نشأة الصحافة النسوية العربية»، والرابع: «المؤتمر النسائي في بيروت في العام 1928»، قدَّمت ليليان إطاراً مرجعياً عن الواقع السياسي والاجتماعي لتلك المرحلة، مُتبنية سردية عمَّمَها الفكر الاستشراقي، من دون أن تسعى إلى نقده وتفكيكه، إلا أنها ألمحت خلال تركيزها على المحطات الأساسية إلى الاختلافات الفكرية التي شابت تلك الحقبة، وركَّزت على دور الصحافة ومضمون توجهاتها. علماً أن هذا التأطير يساعد أي باحث في تعيين منطلقاته للعمل النقدي والموثَّق في سير الرائدات، ويتيح مجال الغوص في دور الصحافة والسياسة والحراك الاجتماعي والعمل النسوي المشرقي وأبعاده في عصر «النهضة».

كانت الباحثة دقيقة وواعية عندما ربطت هذا النشاط الفكري «بمرحلة تحولات تاريخية عاشتها مجتمعات المشرق بين العام 1858، تاريخ بدايات الصحف العربية، وما لحقه من محطة صدور الصحافة النسوية في العام 1892، والعام 1928، وهو تاريخ المؤتمر النسائي العام في سوريا ولبنان، الذي يُمكن القول إنه رسم خارطة طريق النضال النسوي واهتماماته».

يُسلط الكتاب الضوء على حقبة من تاريخنا بما تكتنزه من أدوار وتحدّيات وواقع وخصوصية، ويفتح المجال للبحث في ما يحيطه من واقع لم يكُن هدفاً للكتاب أساساً، بما أنّ الكاتبة عبَّرت منذ البداية عن شغفها بمتابعة دور المرأة الأدبي ومدى إسهاماتها في تفعيل الحركة الفكرية العربية الحديثة.

رائدات عصر النهضة قبل الانزلاق في خطاب السوق

هذا السياق الزمني الذي عُرف بمرحلة النهضة، أتى على وقع الحرب العالمية الأولى، بإرهاصاتها ونتائجها، بعدما جاءت حروب الآخرين بنتائجها المباشرة على أرضنا، حتى ولو لم يكن الاقتتال مباشراً بيننا أو فينا. وقد علقت الدكتورة قربان عقل على ذلك بـالتركيز «على أثر الحرب العالمية الأولى في دفع النساء إلى العمل الرعائي، من تعليم وصحة وكتابة وصحافة كعملٍ إبداعي فكري» (ص17). وهنا يصطدم عقلنا بالفكرة المعممة، وهي أن الحروب تشكِّل مصلحة في استعادة دورنا كنساء، باعتبار أن النساء وجدْنَ مجالاً للدخول في الشأن العام من خلال أدوارهن الرعائية، وكأنّ هذا الدور كان غائباً في طبيعة مجتمعنا واحتياجاته.

تناول الكتاب «رائدات» بما يعنيه ذلك من تزامن تفاعلهن مع مرحلة مفصلية في تكوين دولنا، التي ما تزال تعيش خَللاً بنيوياً وواقعياً أسهم في عدم إنتاجها كيانات مستقلة، مركِّزة بذلك على الفكر النسوي وعلى مسارٍ طويل من الدور النسوي قبل انزلاقه في خطاب السوق وفق القياس الشمولي المعلَّب تحت تأثير العولمة. ففي عصرنا الحالي، نشهد على قيَمٍ جديدة تذوب فيها خصوصية المجتمع المحلية، وهو ما تاهت في ظلاله نسويّاتٌ من القرن الحادي والعشرين 21. هذا التوقيت يتزامن مع مرحلة مفصلية جديدة في تاريخنا، فيأتي الكتاب أولاً للمعرفة وثانياً لتلمُّس طريق جديدة للانبعاث في نهضة لائقة بهذا التاريخ.

منهجيّاً، ارتكز الكتاب على تقديم المعلومة التي وُثّقت صحفيّاً عن مرحلة الحداثة، والتي غُيِّبت في كل الحقبة «النضالية» في مرحلة ما بعد الحداثة. بحيث يظهر دور راقٍ لنساء لم نتداول أسماءهن ليوفيها الكتاب حقها، ووصل عددهن إلى 75 رائدة في مجالات فكرية وصحفية وأدبية مختلفة، أو عن نشاط نضالي لم يكن متداولاً لبعض الرائدات المعروفات. ونذكر بشكل خاص سيرة عنبرة سلام في نضالها العروبي واهتمامها بفلسطين، إضافة إلى نضالها بشأن دور المرأة العربية، في وقت يتركز الكلام على هذه الرائدة حول تحديها للموروث الديني من خلال خلعها الحجاب. هذا الأداء التحرُّري يعكس، وفق سيرة هذه الرائدة، رفضاً لممارسات السلطة باسم الدين على غرار العديد من النساء الرائدات في عصر النهضة.

دعم العائلات

يشكل الكتاب ركيزةً متينة ودليلاً عن رائدات «النهضة»، وأيضاً عن الصحف التي أسَّستها النساء من العام 1892 حتى عام 1928، مع توثيق دقيق وأمين للتواريخ التي أُتيح تدقيقها من بين الوثائق المتاحة في المكتبات، وهو بذلك يُعتبر تنقيباً عن ثروة ثقافية نضالية تشكِّل منارة لاستعادة المعرفة حول النضال المجتمعي الموثَّق صحفياً، من دون أن يكون شاملاً للحراك النسوي المجتمعي في مختلف البيئات المشرقية، التي لم تهتم صحافة ذلك الوقت بتسليط الضوء عليها. والصحافة في هذا السياق قامت بدور أساسي في إنتاج البنى المؤسسية المتناغمة مع تلك الفترة لتنظيم المجتمعات على أساس «الدولة الحديثة»، باعتبارها أداة ممارسة الحقوق الفكرية.

نلتفت إلى تركيز الصحف على دَور نساء من المجتمعات الحاكمة أو المحظوظة تحت مظلة هذا الحُكم أو ذاك، على الرغم من المظالم التي دفعتهن للنضال. هذا التوجه الصحفي يحثنا على التفكير في ما كان يحدث في المجتمعات الريفية، وفي دور النساء وتفاعلهن مع محيطهن والأدوار التي قمْنَ باستبطانها في المجتمعات التي لم تكن خاضعة لنموذج الحُكم الرسمي، لإدارة أنفسهن وفق ثقافتها. كما يدفعنا للتفكير بالفسحة التي أُتيحت لهؤلاء الرائدات نظراً للامتيازات التي تمتّعن بها، سواء امتيازات السلطة (سيرة خالدة أديب مثلاً) أو امتيازات اجتماعية (زينب الأسعد) أو امتيازات أدبية (أليس البستاني). وفي ذلك نستنتج دعم العائلات ورجالها لمسار هؤلاء النساء اللواتي لم يجدْنَ في الرجل منافساً لهن أو خطراً على وجودهن.

شكّل المؤتمر النسائي في بيروت في العام 1928 محوراً مركزياً في الكتاب، وقد بدأ تحضيره منذ العام 1921 في مُدن مختلفة من لبنان وسوريا. ومن خلال مخرجات هذا المؤتمر نلحظ أن المرأة ربطت تحررها «بخدمة نفسها وخدمة الإنسانية». وأبرزت، من خلال ما نادت به من حقوق، دورها الرعائي؛ إذ ركّزت النساء على «هدفهن في تعزيز مكانة المرأة ورفع شأنها ومصلحة المرضى وإطعام الجياع والعناية بالعميان ومداواة العجزة وستر العائلات وتبادل المنافع». كما ركَّزت النساء على أُسس العائلة والزواج ومواجهة الظلم الذي كانت تعيشه النساء تحت وطأة سلطة الدين في السياسة والمجتمع، ونادَيْن بالعدالة والإنصاف (ص47). ولم يكن أساس مطالبهن بالمساواة قائماً بحسب أدبيّات ما بعد الحداثة، بما تعنيه من تقاسم المصالح والنفوذ والثروات استناداً إلى خلفية فردية. كما كان تركيز النساء قائماً على الشراكة في بناء العائلة وخدمة الوطن من خلال حسن تربية الأبناء، وتحصيل العلم والحق بالعمل، بحيث بقيت الأسرة منطلق نضالات نساء النهضة ومن أهم أهدافهن، من دون أن يَجدْنَ فيها تهديداً لدورهن العام.

الانغماس في الملاذ والترف

لم يكُن النضال الذي واكب عصر النهضة مبنياً على ركائز الفردية إذاً، على الرغم من أن هذه الحقبة شهدت نمو الليبرالية. كان نضالاً مُنادياً بالتحرر الاجتماعي الذي ساد مرحلة الثورة الصناعية. وقد استفادت الرائدات من موقعهن الاجتماعي الثقافي لتحرير النساء في المجتمع وليس لمواجهة المجتمع وأُسسه. ونلحظ أن المقال الأول الذي كُتب حول«مساوئ النهضة النسائية» على المجتمع كان مقالاً معرَّباً عن الكاتب الإنكليزي (لو دوفتشي)، منقولاً عن مجلة «الهلال» ومنشوراً في مجلة «العرفان»، والذي عرض فيه الآتي: «نخوة الرجل ضعفت نحو المرأة... فشاع الانغماس في الملاذ والترف... تعلَّقت المرأة في الخيال من خلال مطالعة الأدب الخيالي،... كثُرَ اختيار النساء في العمل ما جعل العقم يزداد في المرأة، وأصبح واضحاً انحطاط الأطعمة...».

ختاماً، يُعتبر كتاب د. ليليان مفتاحاً معرفياً مُهماً ومُنطلقاً للإنارة على العديد من الإشكاليات التي يَسمح بالتعمُّق فيها من خلال ما قدَّمه من أدلة ووثائق وتواريخ، وذلك من خلال مراجعه الغنية. هذه الإضاءات تتيح لنا إعادة قراءة تمفصُلات الواقع السياسي الدولي والمحلي، ودَور الصحافة والحراك الاجتماعي ومنه النسوي. ولعل الغاية الأساسية تكمن ليس في مساءلة أنفسنا عن عدم نجاح البنى التي وُعِدت دول المشرق بنجاحها فحسب، وإنما أيضاً عن الأزمات التي أنتجتها المقاربة الغربية في عمق هذه المجتمعات، لنتساءل أخيراً عن معنى النضال التحرري.

*أستاذ في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.