تهتم بالقرآن من الناحية اللغوية اليوم ثلاث مدارس مختلفة، وهذا التنوع في حد ذاته محمود، ويرى كل منصف أن المدارس الثلاث لها إنجازات واكتشافات كبيرة وشيّقة، وطبيعي أن هذا يدل على غنى النص الكريم. كما أنه دليل على قدرته على تحفيز العقول، وإن اختلفت زوايا نظرهم إليه.

مناجم هذا الحقل – لغة القرآن – لا تبخل بمجوهراتها الغالية والبراقة على كل باحث صادق، ولكن -للأسف- فإن هذه المدارس الثلاث تتشابه في عيب المنهجية، وهذا يجعل الحاجة ملحّة إلى وجود مدرسة رابعة لا تقع في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه المدارس الحالية. كما أن اجتماع المدارس الثلاث والتعاون في البحث – أو على الأقل النقاش العلمي بينها – هو أيضًا حل قد يفضي إلى نتائج أكثر دقة.

وللتعريف بالمدارس الحالية، فهي أولًا: من يحبون تسمية أنفسهم «القرآنيين»، ولهم بلا شك إسهامات وفتوحات مهمة وثمينة، مثل بقية المدارس. كما أن لهم عيوبهم كالبقية أيضا، إذ يعيبهم أنهم يضعون نصب أعينهم في أبحاثهم كيف يستخرجون من النص الكريم ما يتوافق مع روح الحداثة، وبالذات الغربية، وما يتناقض مع خصومهم السلفيين، ومن الطبيعي أن يؤثر هذا المنهج سلبًا على دقة نتائج أبحاثهم.


والمدرسة الثانية هي المدرسة التي بدأها المستشرقون، وسار على خطاهم فيها في العصر الحالي بعض الباحثين المسلمين من أبناء الإطار الفكري نفسه وبالمنهجية نفسها، ولهم كذلك إسهامات محمودة -وإن كانت غير مقصودة وأتوا بها على سبيل التشكيك إلا أنها تزيد القرآن عجبا-

ويعيبهم أنهم ينطلقون من نية البحث عن ثغرات يثبتون بها ما يتمنّون ثبوته من التشكيك في القرآن، وهذا الهوى بلا شك يعيقهم ويؤثر على دقة نتائج أبحاثهم، بينما كان بإمكانهم إنتاج بحوث أغزر وأكثر دقة لولا هذه المنهجية.

وأخيراً المدرسة الثالثة، وهي الأقدم، مدرسة المدافعين عن القرآن، التي امتدادها اليوم يسمون أنفسهم «مدرسة الإعجاز اللغوي»، وهي مدرسة عريقة وغزيرة الإنتاج، ولكن يُشوّش على نتائجهم ويعيق كثيرًا من أبحاثهم هدفهم المتمحور حول إثبات إعجازية النص وتكذيب الخصوم، فتراهم يلوون أعناق المعاني لكي تتوافق مع ما يظنونه معجزًا، وبهذا شوّشوا على بعض نتائج أبحاثهم الرصينة والقوية.

قد يرى أي فرد من أتباع أي من المدارس الثلاث هذا التقييم غير دقيق فيما يخص مدرسته، وهذا أمر طبيعي، بل هو صلب المشكلة.

ومن يتتبع نشأة هذه المدارس يرى كيف بُني الإطار الفكري لكل مدرسة، وما هي الظروف التي خلقته، وقد يُعذرون – من الناحية النفسية – على تبنّي هذا الإطار.

إن التطور المأمول في هذا المجال يتطلب مدرسة متحررة من هذه الإطارات الفكرية التي تعيش فيها كل مدرسة، أو على الأقل يكون هناك مشروع مبادرات، لإشراك هذه المدارس في أبحاث مشتركة أو حوارات علمية، بحيث يُذيب بعضهم عيوب بعض.

ومن يطّلع على نتائج المدارس الثلاث يجد جميعها لها إنجازات، وبعض الأبحاث التي تخص كل مدرسة فيها من القوة والجمال والدقة ما يجعلك تتحسر على باقي الجهد المهدر، الذي من الواضح أن تأثير الإطار الفكري أضاعه، وحجب عيون الباحثين من داخل إطاراتهم.

وهذه دعوة، أولًا، إلى الباحثين داخل كل واحدة من هذه المدارس للتخفّف – قدر المستطاع – من القيود التي يفرضها عليهم إطارهم الفكري، كما هي أيضًا دعوة إلى المتخصصين في اللغة العربية للبحث في هذا الحقل الغني بمنهجية رصينة وعلمية، خارج هذه الإطارات الثلاثة.

وفي الختام، هي دعوة موجهة إلى مراكز الأبحاث، وحتى إلى مقدّمي البرامج الفكرية، من أجل إشراك واستضافة ممثّلين عن هذه المدارس جميعًا ضمن مشروع مشترك، أو ندوة، أو حلقة نقاش تجمعهم على طاولة واحدة، فربما يبدأ من هناك تفكيك الجمود، واستعادة الحيوية المنهجية في التعامل مع النص الكريم.