من غرائب الصدف أن أسمع صوت الشاعر بدر بن عبد المحسن يتلو قصيدته الأخيرة (صوتي تجرّح ما بقى غير همسي) وهو على فراش الموت، ذاكرًا أنَّه عاشَ سبعين سنة سعيدة لكنَّ الليالي استكثرت طول عرسه، فهو مسرور حزين، ثم بعد أن يتملكني الحزنُ على أفول البدر وأسعى لطرده بتقليب كتبي، وإعادة النَّظر فيها، أجد رواية بين مدينتين لديكنز، وأفتحها عشوائيًا فأجد مقولة: «كان ذلك أسوأ الأزمنة وأحسنها»، وكأنَّ المكتبة بدل أن تطرد الحزن شرحت أسبابه؛ فقد حوى مشهد ابتعاد البدر عن مدار الأرض، وقصيدته الأخيرة أسوأ الأزمنة وأحسنها. كما أني رأيت أنَّ تلك الحادثة لم تكن صدفة بحتة، بل هي دعوة للالتفات إلى تشابه بين رومانسيتين، رومانسية ديكنز التي تقف بين المدارس الثلاث الكبرى (الرومانسية والواقعية والطبيعية) لتصنع خطًا خاصًا داخل المدينة يُراقب الغليان بحذر، ويقول إنَّ العدل المنتظر -بعد الثورات- يتحول إلى انتقام عبثي، كما هو ظاهر رواية بين مدينتين التي تخيط حكاية من قلب الثورة الفرنسية ونتائجها المرعبة والتوترات التي سبقتها، ورومانسية بدر بن عبد المحسن المتمثلة في القصائد التي تراقب من بعيد حافة الغليانِ الإنساني، فبدر كمدينة لندن تلك المدينة التي كانت -في رواية بين مدينتين- تراقب مدينة باريس وهي تغلي، تراقبها وتكتب التاريخ دون أن تتورط فيه، لكن بدر في قصيدته الأخيرة يقول «لا بدّها يا سعود بتغيب شمسي» وهي اللحظة التي لا يستطيع الإنسان فيها إلا أن يكون في قلب النار لا مراقبًا لها؛ وهو ما جعله يقول بعدها «ولعلها حريتي بعد حبسي» تقاطعًا مع قول المعري: «وكون النفس في الجسد الخبيث»، وكأنَّ البدر يقول «هذه قصيدتي التي أصبحت فيها باريس لا لندن»، فهذه القصيدة تعبّر عن توترات الجسد قبل أن تغادره الروح، توترات ما قبل ثورة الروح على الجسد، وفي الرواية فإن باريس كانت علامة على التمرد الذي لا يُروَّض، ولندن علامة النظام الذي لا يُفكّك، وظل بين هذين المعنيين شخصية (سيدني كارتون) الرجل النبيل، الذي لم يكن متمردًا ولا نظاميًا، بل هو الذي ضحى من أجل المعنى الأخير في لحظة الموت، إذ لمَّا عاد بطل الرواية ( تشارلز دارني) إلى باريس في ذروة الثورة لإنقاذ أحد الخدم اعتُقل لأنه أرستقراطي، وهناك في وسط محاكم الثورة الحمقاء والمشانق المتربصة بالحكماء يظهر سيدني ليأخذ هوية تشارلز دارني ويصعد إلى المشنقةِ بدلًا منه، وفي القصيدة الأخيرة للبدر تحدَّث عن تضحية أخيه سعود الذي لم يعدّه إلا نفسه: «لولاي أحبك ما تذكرت نفسي» وكأن سعود يخرج للملأ بطلًا من حياة البدر، كما خرج سيدني بطلًا من حياة تشارلز، وكأن ديكنز والبدر يقولان لنا: لا يقاس الإنسان بالماضي بل بالمعنى الأخير الذي يختاره حين يكون حرًا تمامًا.

التفاتة:

ديكنز لم يكتب في الطبيعة البريئة والإنسان المتفرد والعاطفة الجياشة كما الرومانسيين، بل في قلب المدينة التي لا تجعل البطل شاعرا حالما في الغابات، بل مناضلًا في الحياة، لكنَّه -في الوقت نفسه- كان رومانسيا؛ لأنه كان مثاليا في بناء الأخلاق كجعله سيدني تضحي من أجل تشارلز، ولأنه كان يُصور الشر قُبحًا أخلاقيا لا مجرد خلل اجتماعي، ولأنه يركز على فكرة الخلاص بالحب وراحة الضمير، فمن كلمات سيدني كارتون -في رواية بين مدينتين- أن الموت ليس فناءً بل راحة، ولم يكن يُفكّر بها كمعنى مطلق بل بمعنى راحة الضمير، وهو أن تتحرّر الروح من آثام الجسد.