تجد هذا كله في بلاد العرب، فلا نكاد تصدق أن لهذه البلاد وحدة ما، أو أن من اليسير أن تتحدث عنها وعن آدابها كما تتحدث عن أي بلد آخر من بلاد المشرق العربي. بلاد العرب أو جزيرة العرب كما يسمها الجغرافيون فليس لها من هذه الوحدة حظ، فما تقوله عن الحجاز لا يصدق على اليمن وما تقوله في أمر نجد لا يصح بالقياس إلى تهامة، فليس هناك قطر واحد وإنما هناك أقطار وأقاليم، وهذه الصورة التي أصورها لك الآن من بلاد العرب قريبة كل القرب من الصورة التي تجدها لهذه البلاد في الشعر الجاهلي حين لم تكن هذه الأقاليم كلها تتفق إلا في الاسم، وحين كانت تختلف في اللغات واللهجات وفي النظم السياسية والاجتماعية والدينية باختلاف الأقاليم والأقطار، وحين لم يكن الجمل (وهو أداة المواصلات الوحيدة) يستطيع أن يلغي ما بين هذه الأقاليم من الفروق. فهذه الأقاليم إذا على حالها القديم تكاد تكون معزولة عن العالم الخارجي، وهي إذا على حالها القديم لا يكاد يوجد اتصال وطيد بين أقاليمها الداخلية. ومن الغريب أن وضعها السياسي بعد الحرب الكبرى يشبه جدًا وضعها السياسي في القرن الخامس والسادس للميلاد قبل أن يظهر الإسلام، فيوثق الصلة بينها وبين بلاد الشرق الأدنى والأوسط.
كانت أطراف الجزيرة العربية في القرن الخامس والسادس للميلاد متصلة بالدول الأجنبية المجاورة لها. فكانت أطراف من جهة الشام متصلة بدولة البيزنطيين ونشأ عن هذا الاتصال أن نظمت علاقات سياسية بين أمراء الغسانيين وقياصرة قسطنطينة أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث. وأي شيء الآن إمارة شرقي الأردن؟ هي إمارة الغسانيين القدماء، فيها مدن لها حظ ضئيل من الحضارة، وفيها بادية قوية غنية، وعلى رأسها أمير كان غسانيًا قبل الإسلام وهو هاشمي الآن. وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس تقوم فيها إمارة عربية يحميها أكاسرة الفرس وتحافظ هي على حدود الدولة الساسانية من غارة البدو. وبلاد اليمن وما يتصل بها من الأقاليم الجنوبية في الجزيرة كانت في القرن الخامس والسادس موضع النزاع بين الفرس والروم. وكانت تخضع للروم بواسطة الحبشة أو تخضع للفرس مباشرة أو تظفر باستقلال ضئيل يظل موضع النزاع بين أولئك وهؤلاء. وهي الآن كما كانت من قبل، بعضها خاضع لسلطان الإنجليز مباشرة على الساحل، وبعضها مستقل ولكنه موضوع النزاع والتنافس بين القوة الإنجليزية والقوة الإيطالية.
1928*
* أديب وناقد مصري (1889 - 1973)