مع انقضاء أيام التشريق، بدأت رحلة العودة المباركة؛ عاد الحجاج من «منى»، وعاد الناس إلى أعمالهم، وهدأت مشاهد الذكر والتكبير التي ملأت الآفاق أيامًا، كما هو شأن المواسم حين تنقضي، وحين تعود الحياة إلى نسقها الطبيعي، وهنا لا بد أن يسأل الفرد نفسه: ماذا بقي؟
الناس تعودوا على التعامل مع المواسم على أنها مناسبات مؤقتة، لا مشاريع ممتدة؛ فتنشط النفوس في أيام، ثم تخفت بعدها، وكأن شيئًا لم يكن؛ ففي الحج، شاهدنا صورًا من التراحم والانضباط والتعاون، وشهدنا كيف يمكن أن تنتظم الحشود إذا احتكمت لنظام، وكيف يُمكن للأفراد أن يكونوا أكثر وعيًا حين يُلهمهم مشهد أعظم، وهذا ليس أمرًا يخص الحجيج وحدهم، بل يُفترض أن يعود صداه على الجميع، من حضر ومن تابع ومن أدّى النسك وحتى من أعان، فالمجتمعات القوية تُعرف بما تفعل بعد لحظات الإجماع، لا خلالها فقط، وما أجمل أن يثبت الناس بعد كل موسم إيماني على الخير، وأن يتذكروا أن الخير ليس موسمًا، بل سلوكًا، وأن النظام ليس ظرفًا طارئًا، بل خلقًا دائمًا، وأن التكبير والتهليل الجماعي لا ينقضي صداه عند خفوت الصوت، بل يبقى ما بقي أثره في الأخلاق والطباع.
من المهم في هذا السياق أيضا أن يُدرك المجتمع أن الحج، بقدر ما هو عبادة فردية، فهو أيضًا تمرين جماعي على التعامل الراقي، والانضباط العام، والرحمة المتبادلة، واحترام المساحة المشتركة، وما يُرجى من المجتمع بعد الحج، ليس أن يبقى في حال التنسك ذاته، بل أن يبقى في حال التماسك، وأن نرى أثر تلك الأيام في أسلوب التعامل، وفي رقي الخطاب، وفي احترام النظام، وفي توقير الكبير، وفي حفظ الحقوق، وفي صلة الأرحام، وفي الرحمة بالضعفاء، وفي التقليل من الشكوى والتذمر؛ فليس من تمام النعم أن نُكثِر التكبير ثم نُسرف في الخصومة، أو أن نقف على عرفات ثم نغيب عن المعروف، ولعلنا، وقد عبرنا الموسم بسلام، أن نراجع أثره لا في الصور المتداولة، بل في النفوس والطباع، وفي كيف يعيش الناس معًا بعد أن كبّروا سويًا، ورموا الجمرات سويًا، وعادوا إلى بيوتهم على ما يستحق أن تبنى عليه حياتهم؛ والحمد لله، سبحانه وتعالى، أن كثيرا من الناس نجحوا في تقديم نماذج مشرّفة خلال الأيام الماضية، لا بصيحات ولا بشعارات، بل بسلوك هادئ، واحترام للنظام، وتقدير لقيمة الزمان والمكان، وهذه النماذج، وإن لم تتصدّر الصور كما ينبغي، إلا أن أثرها أعمق، وهي التي يُعوّل عليها أن تنتشر، وتُصبح ثقافة مستقرة لا استثناءً عابرًا.
أختم بأن من أبرز حسنات هذا العام أن النجاح في موسم الحج لم يكن روحيًا فقط، بل مجتمعيًا في صورته العامة؛ فقد رأى الناس نظامًا دقيقًا، واهتمامًا مبكرًا، وتعاملاً كريمًا من الجهات المختلفة، وعاش الحجاج تجربة يسيرة خالية من الارتباك والتضييق، وهذه كلها رسائل تؤكّد أن المجتمع حين يتعاون، ويثق، ويحترم، يُمكن أن يتجاوز كثيرًا من التحديات دون أن تُثار الضوضاء. فالشكر لكل من أعان، وخدم، ونظم، وساعد، والشكر مضاعف لمن بقي على حاله من الصدق والهدوء بعد انتهاء الموسم؛ فالمجتمعات القوية تُعرف بما تفعل بعد لحظات الإجماع، لا خلالها فقط.