في زمنٍ تتنازع فيه الدول اقتصاديا وبخاصة الولايات المتحدة ضد الصين، وتتصاعد فيه قوانين الحمائية من قوانين التجارة العالمية، جاء اللقاء الثلاثي بين آسيان ومجلس التعاون الخليجي والصين، ليمنح دول الاقتصادات الناشئة أملا جديدًا، ورؤية تتجاوز الأزمات نحو التعاون المستدام.

من زمن القوافل التي كانت تخترق الصحراء وتُبحر في بحر الجنوب، إلى القطارات السريعة والموانئ الذكية، ظلّت الصين وآسيان والخليج تحيك خيوطا ناعمة من الشراكة. ففي الأزمنة القديمة، كانت التوابل والعطور والخزف واللؤلؤ، واليوم التكنولوجيا والطاقة والاستثمار والبيانات. اختتمت مفاوضات منطقة التجارة الحرة بين الصين وآسيان (3.0)، كأنها رسالة مكتوبة بالحبر الصيني القديم على ورق الأمل، بأن ما بدأته القوافل، تُكمله اليوم الرؤى الاقتصادية الحديثة.

في قاعة تتنفس الآسيوية والخليجية والصينية، لم تكن الكلمات دبلوماسية باردة، بل كانت دفئًا من الإيمان بالتعددية والانفتاح. دول الاقتصادات الناشئة لم تعد مجرد ضيف في وليمة الاقتصاد الدولي، بل أصبحت أحد الطهاة الذين يصيغون وصفة المستقبل. دعوات القمة كانت تُنادي بعدالة في التنمية، لا بصراع على الموارد. بعالمٍ يربح فيه الجميع، لا أن يخسر أحد ليكسب آخر. وكأن القمة تهمس للعالم: العولمة لا تموت إذا حملتها الشعوب الصاعدة بقلبها النابض.


لكل طرف من الثلاثي حكاية ومصدر قوة: آسيان بزهرتها الشابة ومواردها الغنية، الخليج بطاقة شمسه التي لا تغيب ورؤوس أمواله الطموحة، والصين بقوة مصانعها واتساع سوقها الذي يشبه بحرًا لا ساحل له. حين يجتمع هؤلاء لا تتراكم القوى فقط، بل تتضاعف، وتولد منظومة جديدة تكون فيها الطاقة أرخص، والتمويل أذكى، واللوجستيات أسرع، والأمن الاقتصادي أكثر استقرارًا.

ليست معادلة حسابية، بل فلسفة في العلاقات الدولية الجديدة. الصين منحت تأشيرات دخول متعددة لسكان آسيان، وفتحت أبوابها لدول الخليج بلا تأشيرة، وكأنها تُريد أن تقول: نحن لا نفتح الحدود فقط، بل نفتح نوافذ القلب والتبادل الحقيقي. مجلس أعمال ثلاثي قيد التشكيل، ومشاريع تتوزع ما بين الاقتصاد الرقمي، والطاقة المتجددة، والزراعة، وحتى تبادل الخبرات البشرية، وكأن الحلم أصبح خطة، والخطة بدأت تُكتب بلغة الأفعال.

في عالم يعاني من قوانين التعرفة الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة، وسلاسل إمداد تقطعت بها السبل. في هذا المشهد، وقفت دول الاقتصادات الناشئة لتقول: لسنا ضحايا، بل بناة طريق جديد. حين تتحد الأسواق الكبرى من الخليج إلى جنوب شرقي آسيا فالصين، لا يكون الهدف فقط الازدهار المحلي، بل بناء اقتصاد عالمي أكثر توازنًا. منصة تُشرك الآخرين ولا تستبعدهم، وتنشر الطمأنينة في زمن قلق.

في عالم يتكلم بلغات متعددة، ويؤمن بأديان وثقافات مختلفة، أظهرت القمة أن الاختلاف لا يفسد للتعاون قضية. يمكن لدول الاقتصادات الناشئة أن تختلف في اللهجة، وتتوحد في الهدف، تحمل خصوصيتها الثقافية، وتُسهم في صياغة النظام العالمي بروح جماعية. فالطريق إلى العدالة العالمية ليس عبر الانعزال، بل من خلال جسور التعاون، وفنون التفاهم، وحكمة الاعتراف بالآخر.