يناقشك شاب في مفهوم (الأمة الإسلامية) فتضطر إلى تشريح هذا (الشعار) المتخم بالأيديولوجيا منذ حرب السوفييت وكتاب (آيات الرحمن في جهاد الأفغان)... الخ، لتوصله إلى مفهوم (الدولة الحديثة) وأخلاقيات المواطنة، فيصدمك بسؤال: ما ضمير الأمة السعودية؟ ويضيف: لقد قيل لنا إن «رجال الدين» هم ضمير الأمة السعودية، فهل هذا صحيح؟

هنا تصيبك لحظة صمت إدراكاً منك لخطورة مفهوم «ضمير الأمة»: فكلمة (ضمير الأمة) خطيرة في مدلولها، وعندما حاول بعض (رجال الدين) احتكار مفهوم الأمة/ الدولة، رأينا (الإرهاب والخراب). ونظرية (السيفين) التي وضعها البابا «جلاسيوس الأول» عام 494م، لتحديد العلاقة بين «السلطة الدينية والسلطة الزمنية»، لا علاقة لها بواقعنا في السعودية ولا بتاريخ جزيرة العرب، فالثقافة العربية لا يتسع (غمدها لسيفين)، ولا سيف يعلو على سيف المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه.

إنها دولة واحدة بسيف واحد، وبهذا السيف الواحد قامت الدولة وفي ظلها «تعايش الجميع»: (البادية والحاضرة، السنة «سلفية، صوفية» والشيعة «اثني عشرية، إسماعيلية»، المقيمون من عرب وعجم بمختلف دياناتهم وأعراقهم). وفي تاريخ التأسيس الحديث، نجد تنوعاً فكرياً وثقافياً يعكس نهج الملك عبدالعزيز، حيث استوعبت سيرته شخصيات مختلفة فتح لها باب صداقته وكرمه مثل أمين الريحاني ومحمد أسد أو احتواها بالعمل تحت إمرته مثل: فؤاد حمزة، حافظ وهبة، يوسف ياسين، رشدي ملحس، عبدالله فيلبي، وهذا يؤكد أن سيرة المؤسس جمعت بين الحزم والحكمة، عارفاً بالحق ليعرف أهل الرأي فيه، فلا تغره كلمة (حق يراد بها باطل) ولهذا نراه يوضح مفهوم التقوى في خطابه أثناء تكريم كبار حجاج بيت الله في ذي الحجة 1356/فبراير 1938 فيقول: «والتقى ليس مجرد السجود، ولكن بالتفرقة بين الحق والباطل، فالإنسان منكم حين يدخل السوق لمشترى متاعه كيف يفرق بين الطيب والخبيث؟ فإذا كان يفعل ذلك في أغراضه البسيطة، فيجب أن يفعله في بدنه ونفسه...» (خطابات الملك عبدالعزيز، جمع وإعداد محيي الدين القابسي ط3، ص117).


ثم نرى في كلماته ما يبعد المسلم عن مآزق الغلو والتطرف والإرهاب بحكمة بعيدة النظر كأنما تحكي عن مآزق العالم الإسلامي في الربع الأول من قرننا هذا، وهو ما أوضحه في خطابه السنوي التكريمي للحجاج يوم 10 من ذي الحجة 1359 /9 يناير 1941: (إني أدعو إلى الاتفاق والاعتصام بحبل الإسلام، وليس معنى قولي هذا أن يفهم منه أنني أدعو المسلمين إلى التعصب وقتال أوروبا، فهذا قول لا فائدة فيه، بل أقول اليوم يجب علينا التناصح وعدم التحاسد، وأن نسعى لما يحفظ قوانا، وأن نكون ضد كل شخص يعمل ضد الإسلام، لقد تكلم معي كثيرون من الأوروبيين، وقالوا لنا إن حكومتنا تكرم الرجل الصادق الذي يقوم بحق بلاده، فإذا صدقنا في أعمالنا وقمنا بحقوق بلادنا احترمنا القريب والبعيد..) المرجع السابق ص123.

ولهذا فإن الإجابة على سؤال: ما هو ضمير الأمة السعودية؟ إن ضمير الأمة السعودية يجده الباحث في (سيرة المؤسس عبدالعزيز آل سعود)، حيث تبرز فيها قيم: (الحزم والقيادة الحكيمة، الوسطية في النهج السياسي والديني، التعايش مع الثقافات المختلفة، التمييز بين الثوابت والمتغيرات في الدين والسياسة) فلقد تفادت السعودية أخطاء بعض الدول التي خلطت بين الدين والسياسة بشكل غير حكيم، كما حدث مع الإخوان المسلمين في بعض الدول، مما أدى إلى سقوطهم مع من تحالف معهم، حيث خلطوا بين: أصول الدين الثابتة، التي لا تتغير باختلاف الزمان والمكان، والآراء الفقهية المتغيرة بتغير العادات والأعراف والمقاصد والأزمنة والأمكنة.

وأخيراً... لنراجع ضميرنا ضمير الأمة السعودية لنتعرف من خلاله على طبائع المغرضين الذين يدَّعون الإسلام لكن يضرون الأمة أكثر مما ينفعونها عندما قال: (إني والله أخاف الأجنبي مرة، وأخاف الذين يدَّعون الإسلام ثلاثة آلاف مرة، وأرجو أن يعذرني المسلمون في قولي هذا، وإني والله صادق في ما أقوله، وما تكلمت به وقد قيل: «يا رسول الله المسلم يزني؟ قال: يزني. قالوا: يسرق؟ قال: يسرق. قالوا: يكذب. قال: لا. فأنا أبرأ إلى الله من الكذب، أنا أتأخر وأتقدم بقدر الحاجة، ولا أعمل عملاً أخرب به بلادي، وإذا جاء وقت العمل واللقاء فالعار على الذي يتأخر... أما الهرج والمرج والكلام الذي يضرنا أكثر مما ينفعنا فهذا ما لا دخل لي فيه..) خطابات الملك عبدالعزيز للدكتور محمد المشهوري ص116.

ختاماً: السعودية ليست دولة تقوم على توازن بين سلطة دينية وسلطة سياسية كما في أوروبا العصور الوسطى، بل هي دولة تأسست على سيف واحد وقيادة واحدة، مما جعلها نموذجاً للاستقرار والتوازن. لذلك، فإن ضمير الأمة السعودية يتجسد في قيادتها الحكيمة منذ تأسيسها، وليس في رجال الدين الذين حاولوا توظيفه لأغراض سياسية، مما أدى إلى اضطرابات وخلل في بعض الدول الأخرى.

وأعتذر من القرَّاء الكرام في عدم الانتظام الأسبوعي، شاكراً لجريدة »الوطن» سعة صدرها في الكتابةــ غير المنتظمةـ وفق ما تتيحه الظروف، مراعاة لربع قرن من الكتابة فيها، منذ أيام الجندي المجهول رفقي الطيب وحتى أيامنا هذه مع القدير محمود تراوري.