لقد أعادت التقنية تشكيل أدمغتنا، أصبحنا أسرى «الدوبامين السريع»؛ ذلك التدفق اللحظي من المتعة الذي تمنحنا إياه إشعارات الهاتف، مقاطع الفيديو القصيرة، التنقل السريع بين المحتوى. حين تعتاد أدمغتنا على هذا النمط، تصبح عاجزة عن التعايش مع سياقات الحياة الطبيعية: يوم عمل رتيب، اجتماع عائلي طويل، مهمة تحتاج لصبر ومثابرة.
يصل الموظف إلى مكتبه محملًا بتوقعات باطنية بأن يومه يجب أن يكون «مثيرًا»، مليئًا بالمفاجآت والإنجازات السريعة كما تعود من محتوى مواقع التواصل الاجتماعي. لكن الواقع لا يخضع لهذه الرغبات؛ العمل الإداري، المتابعة، التقارير، الاجتماعات... كلها بطبيعتها بطيئة، متكررة، تتطلب نفسًا طويلًا. وهنا تبدأ الإشكالية: تصطدم التوقعات غير الواقعية بجدار الروتين الواقعي، فينتج الشعور بالملل والتذمر.
الأسوأ من ذلك، أن هذا التذمر لا يبقى حبيس المكتب. بل ينتقل إلى دوائر العلاقات. يبدأ الموظف يشكو لأصدقائه من «الملل القاتل» في العمل. وكثيرًا ما يصبح سريع الغضب مع شريكه العاطفي حين لا تكون الأمسية «مبهرة مختلفة». وفي نهاية المطاف، تتدهور الصحة النفسية: إحساس دائم بعدم الرضا، توتر مستمر، قلق وجودي خفي.
لا يتعلق الأمر هنا بالعمل الروتيني فحسب؛ بل بمشكلة ثقافية أعمق: تراجع قدرة الأفراد على قبول إيقاع الحياة الطبيعي. الحياة، في جوهرها، مليئة بالتكرار. تربيتنا، علاقاتنا، عملنا، كلها تبنى على أنماط رتيبة في ظاهرها، لكنها تحمل في طياتها معاني عميقة واستقرارًا نفسيًا. حين نفقد القدرة على التكيف مع هذا الإيقاع، نفقد توازنًا جوهريًا في دواخلنا.
ماذا نفعل؟ أولًا، نحتاج لوعي جماعي بهذه المشكلة. إدراك أن التقنية، رغم فوائدها، اختطفت منظومة مكافآت الدماغ، وجعلتنا نطارد المتعة اللحظية بلا وعي.
ثانيًا، علينا إعادة تدريب عقولنا على الصبر: تخصيص أوقات بلا شاشة، ممارسة هوايات تحتاج لوقت وصبر (كالقراءة، الكتابة، التأمل)، تقبل أن ليس كل لحظة في الحياة يجب أن تكون مثيرة.
يجب أن نتذكر: الرضا العميق لا يولد من مطاردة المتع المتسارعة، بل من القدرة على معايشة لحظات الحياة البسيطة بكل وعي وامتنان.
وأخيرًا، على بيئات العمل أن تدرك خطورة هذه الظاهرة. من المهم أن يُعاد تصميم بيئات العمل بشكل يوازن بين الواجبات الروتينية وفرص الإبداع والتجديد. لا يعني ذلك إلغاء الروتين، بل إعادة تقديمه كجزء من رحلة طويلة نحو الإنجاز.
نحن بحاجة إلى ثقافة جديدة تعيد الاعتبار لـ«الملل الجميل»، ذاك الذي يمنح العقل فرصة للهدوء والتفكير العميق. ففي زمن «الإشباع اللحظي»، يصبح الصبر فضيلة، ويغدو التقبل أرقى أشكال الصحة النفسية. الملل ليس عدوّنا... إنه المرآة التي تعيدنا إلى ذواتنا، حين نصمت أمام ضجيج العالم الرقمي.