واصلت الدجاجة توسعها المستمر خارج الحدود، وانتقلت من طور المزاحمة والمنافسة الحرة إلى الاحتكار التجاري، وهي اليوم طرف مهم في منظمة التجارة العالمية. ولكن قيم الدجاجة الثقافية ظلت تلازمها وتعرقل رحلاتها المكوكية حول القارات. فالدجاجة المسافرة للهند تلزمها مراعاة التقاليد الهندية، حيث يجب عليها مراعاة الثقافة الهندوسية التي تؤكد على خلو المنتج من أي مكونات بقرية، فالبقرة كما نعلم مقدسة عند الهندوس ويحرم تناول لحومها.
الدجاجة المذبوحة على الطريقة الإسلامية يمكن أن تقضي حياتها القصيرة في الريف الفرنسي قبل أن تشد الرحال وتسافر لإحدى الدول الإسلامية وتؤكل بالهناء والشفاء. بينما الدجاجة المذبوحة وفق الشريعة اليهودية فهناك مجموعة من التعاليم الدينية التي تنظم الذبح المسموح به في الديانة اليهودية. فلكل أمة طقوس ذبح خاصة بها لا يريدون لأوروبا أن تمسها. عوامل ثقافية كالذبح وفق شروط دينية معينة، يمكن أن ينتج عنها صراع حضاري. فالدجاجة الهندية -على سبيل المثال- ستمر بمراحل مخاض حداثي وتقدم لها دعوات للانفتاح على ثقافة الآخر، وفي حال أبدت أي شكل من أشكال الممانعة والمقاومة الثقافية، قد تتعرض لاختراق ثقافي يديره أصحاب مصانع اللحوم من خلف الكواليس، فهم يطمحون لتقليص تكاليف الإنتاج في نهاية المطاف، فثقافة السوق الاستهلاكية هي ما يدير مشهد العولمة الثقافية.
مع تداخل الدجاجات من شتى ثقافات العالم، لكل دجاجة هوية تميزها، الفرنسية والبرازيلية والأمريكية وغيرها من الهويات التي لا حصر لها. ستظهر على السطح مبادرات داعية للتعددية الثقافية والتنوع العرقي، ومبدأ التسامح بين دجاجات العالم. وستتعرض الدجاجة لأشكال من الاستلاب الثقافي والأمركة والتغريب. ستذوب الثقافات والمعتقدات رويدا رويدا للوصول لحالة الدجاجة الكونية ذات المشترك الإنساني الموحد. ولأن الثقافة الأمريكية مهيمنة وذات تأثير طاغ، فإنها ستمارس ضربًا من الإقصاء وعمليات الأمركة، ما يجعل الدجاجة غير الأمريكية تعتمد ممانعة ثقافية وتفضل الانكفاء على الذات والتقوقع وسط تراثها ومنظومتها المرجعية التقليدية.
الدجاجة دخلت بوابة الحداثة وهي المتضرر الأول من مظاهرها المتعددة. ولأن العالم بأكمله بات يعتمد على الدجاجة كمصدر رئيس للغذاء، وسوق الوجبات السريعة، ستتعطل حركته للحظات في حال امتنعت الدجاجة عن تقديم لحومها البيضاء الطرية. هناك مصانع ضخمة تصدر اللحوم لكل شعوب العالم بلا استثناء، بمعنى أن إنتاج اللحوم يتطلب تسريعا للإنتاج وتقليصا لتكاليف التشغيل، ومن هنا بدأ التفكير عمليا لإنتاج الدجاجة المعدلة وراثيا، والدجاج المعدل وراثيا تتغير مادته الوراثية (DNA) باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية، والغرض من ذلك تسريع نمو الدجاجة، أي أن تصل الدجاجة إلى وزن الذبح بشكل أسرع، ما يقلل من تكلفة التشغيل ويسرع الإنتاج.
العلم والتقنية لا شك خلقا مأساة الدجاجة، وهنا يمكن طرح تساؤلنا مجددا: هل يمكن للبشر تغيير نمط استهلاكهم لمنتجات الدجاج، بمعنى أن نستهلك اللحوم التي ننتجها ذاتيا بدلا من استهلاك اللحوم التي تنتجها المصانع؟
يبدو مثل هذا الاقتراح غارقا في الطوباوية، ولكنه يوضح لنا مدى اعتمادنا الكلي على الآلات وما تنتجه التقنية، فنحن اليوم أسرى التقنية لدرجة يصعب معها تخيل حياتنا دونها.