فاجأنا العالم الحديث في أعقاب الحرب الكونية الأولى، كان قد بدأ يتسرب إلينا منذ أواخر القرن الثامن عشر: حملة نابليون على مصر، قيام محمد علي، نشاط الإرساليات التبشيرية والتربوية في لبنان وفلسطين على الخصوص، استمرار الصلات المذهبية بروسيا وفرنسا والفاتيكان. على أن العالم الحديث لم يصبح عالمنا بالفعل إلا بزوال السلطنة العثمانية عن ربوعنا.

ولكن، أن يصبح العالم الحديث عالمنا، أي ألا يقوم بيننا وبينه حاجز، لا يعني أننا أصبحنا تمامًا فيه، أي أننا تبنينا جميع معطياته ومفاهيمه - الصالح منها والطالح - في حياتنا. فلو كان الأمر كذلك لما كانت القضية المصيرية التي تجابه العرب اليوم، على اختلاف بيئاتهم، هي: كيف تنشئ مجتمعًا حديثًا في عالم حديث.

هذا التناقض بين كوننا شكلا في العالم الحديث وكوننا جوهرا خارجه، يضطرنا - نحن الأدباء العرب - إلى معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم. في التعبير عن معاناتنا الأولى نعرض أنفسنا لإنتاج أدب يجده القارئ الحديث بعيدًا عن قضاياه ومشكلاته، وفي التعبير عن معاناتنا الثانية نعرض أنفسنا، من جهة أخرى، لإنتاج أدب يجده القارئ العربي مستوردًا غريبًا.


كنا نستطيع، قليلا أو كثيرا، أن نتخطى هذه الصعوبة، فنكتب أدبًا يعكس حياتنا ويعالج قضايانا الخاصة على نحو يهم القارئ في كل مكان، لو لم نكن في عملنا الأدبي مكبلين بصعوبات أخرى هي أيضًا، في أساسها، قائمة أو لا تزال قائمة، لفقدان «الحداثة» في عالمنا العربي.

أولى هذه الصعوبات اللغة. هل تعلمون أننا نفكر بلغة، ونتكلم بلغة، ونكتب بلغة؟ أنكون أننا إذن في رأي البعض، كالدكتور ليفيز، لا نكتب أدبًا قط، لأننا لا نكتب بلغة الشعب، بلغة الحياة؟ ألم يبدأ الأدب الإنجليزي مثلا بتشوسر، والإيطالي بدانتي؟

1961*

*شاعر، وكاتب، وصحفي لبناني (1916 - 1987)