الآن أعمق تجربة للحب عانيتها طوال محياي قد قدر لموضوعها أن يغتاله الموت، والتجربة لم تبلغ ظهيرتها بل ولا ضحاها؟ أم لأن اللحظة العليا التي قارب الشعور بالحب فيها أن يشرف على أوجه كنت أسمع في إبانها أنين الناقوس الناعي يتردد قويًا عميقًا في هذا الجو السحري الغريب الذي انتشر فوق الوديان والروابي الحالمة في شعاع البدر على أكناف مدينة بيروجا؟
هكذا ساءلت نفسي، ثم عييت عن الجواب. فذهبت أتلمسه لدى الشعراء في أول الأمر.
ولكني وجدتهم يعانون ما أعاني من حيرة وقلق، وجدتهم يؤكدون الصلة بين الحب والموت، بل يقولون بالاتحاد التام بين الاثنين، ولكنهم كعادتهم دائمًا يؤكدون ولا يفسرون، لأنهم يحسون ولا يدركون، ويجدون ولا يتبينون، ولا يواجهون.
رأيت نوفالس، ذلك الشهاب الحزين الذى مر سريعًا في سماء الآلام الإنسانية، يقول إن الحب لا يكون عذبًا في شيء قدر ما يكون في الموت.
وإن الموت بالنسبة إلى من يحب ليلة زفاف وسر مملوء بأعذب الغرائب والأسرار، لأنه زواج يهبنا رفيقة الليل. ورأيت ليوبردي، تلك النسمة المعذبة الاسيانة في ناي الأمل اليائس، يلح في التوكيد، ويحاول أيضا التفسير، في شيء من القلق الخصب المخضل بالدموع، ليشيد بهذين الأخوين اللذين ولدهما القدر توأمًا. فجعل أحدهما، وهو الحب، خيرًا إيجابيًا عنه ينشأ أسمى ما في الوجود من نعيم، وجعل من الموت خيرًا هو الآخر، خيرًا سلبيًا من شأنه أن يمحو ما في الوجود من شقاء وعذاب. فهل يكون اشتراكهما في هذه الصفة، وهي أن كليهما خير، العلة في هذه الرابطة الدموية؟ كلا، فهذا الاشتراك السطحي لا يمكن أن يفسر هذا الارتباط العميق.
لهذا يبدأ ليوبردي بتحليل هذا الارتباط من الناحية النفسية فيقول إن المشاهد أنه حينما تغزو القلب عاطفة حب عميقة تنشأ في الآن نفسه رغبة رخية مريضة في الموت. ثم يتساءل عن العلة في هذا الارتباط الثابت بيقين من الناحية النفسية. فيقول:
لعل العلة أن الوجود يبدو حينئذ مقفرًا وكأنه العدم إذا لم يغمره الحب العميق، فينشد المرء الحب مدفوعًا بهذه الصورة الجديدة للوجود، ولكنه لا يستطيع أن يجد هذا النوع من الحب العميق الشامل، فيعتريه القلق، ويلح القلق كلما ألحت الرغبة في الحب العميق المطلق، فيكون في ذلك مصدرًا للجزع والعذاب لا ينقطع إلا بالفناء التام، إذ لا راحة إلا فيه، وهكذا ينتهي الشعور بالحب إلى نشدان للموت.
ولكن هذا التحليل، على الرغم من صدق الوصف، لا يستطيع أن يقنع، لأنه يجعل من الموت وسيلة للقضاء على الحب، ولا يحاول أن يجعل من الموت والحب شيئين إيجابيين تقتضيهما طبيعة الوجود من حيث هو وجود. إنما الحب هنا كالداء المستعصي الباعث على أشد أنواع الإيلام، فلا يستطيع صاحبه التخلص منه إلا بالموت. وحب هذا شأنه ليس جديرًا مطلقًا أن ينعت بأنه خير أو شبه خير.
فلأدع الشعراء إذن لأنهم يحسنون الشعور، ولا يحسنون تحليل الشعور، ولأعرج على المتصوفين.
وهنا أجد القديسة تريزا تتغنى بالصلة بين الحب والموت في نبرات حادة وقعتها على أوتار قلب ملتهب بنار الحب الإلهي وفي صورة أخاذة زاهية الأضواء حسية الألوان: «ما أقوى هذا الحب الذي هز كل كياني، هلمي أيتها الحياة فغادريني ! إني أريد أن أفقدك لكي أكسبك، فهذا ما بقي في مقدوري على ما أنا عليه من ضعف. تعالى إلي إذن، أيها الموت، عذبًا رقيقًا كالنسيم، لأني أموت من كوني لا أموت».
فالحب الإلهي إذن يتعشق الموت كي يتحقق الاتحاد الكامل بين الحب والمحبوب، فينعم الاثنان بالوحدة المطلقة في حياة أبدية.
1949*
* أكاديمي ومترجم مصري (1917 - 2002).