في مثل هذه اللحظات المؤلمة، لا يحتاج الناس إلى من يزيد النار اشتعالًا، بل إلى من يبقي في أطرافها شيئًا من ماء العقل، وظل الرحمة، ولا يحتاج الكون أيضا إلى من يتبارى في توصيف الخطر، بل إلى من يتوقف قليلًا ليشكر النعمة، ويتأمل كيف حفّه الله تعالى، بالستر والسلام.
شخصيًا.. لساني هو لسان قيادتي: «أدين وأستنكر الاعتداءات السافرة، والانتهاكات والمخالفات الصريحة للقوانين والأعراف الدولية»، ولساني أيضًا لسان إنسان يتألم، ويشفق على من لا يملك حيلة، ولا قرارًا، ولا حتى مساحة للسكوت؛ ولا أقسى أبدًا من أن يعيش الإنسان في جغرافيا لا تنتظر رأيه، ولا تفسح له زمنًا للتأمل؛ جغرافيا تتقاطع فيها النيران من فوقه، وتتنازع فيه الأصوات من حوله، وهو عالق بينهما بلا أدنى صوت.
في مثل هذه الظروف الحياتية التي يعيشها العالم، وفي ظل متابعة الصواريخ والرشقات، والقنابل والتفخيخات، والتدابير، تبرز بوضوح قيمة التخصص، وحدود مساحات الرأي، ومعنى الصمت المتأمل، خصوصًا إذا لم يكن المتابع محللًا عسكريًا، أو خبيرًا استراتيجيًا؛ فلكل مقام مقال، ولكل قول زمان، ولكل تخصص مسار، ومن أسوأ ما يبتلى به الناس أن تختلط عليهم التخصصات، وتتميع المسافات، ويتحوّل كل منبر إلى تحليل، وكل هاتف إلى ساحة مشورة.
أنا وأنا أتأمل الصواريخ حين تعبر، أتأملها متألما دون أن أنتظر تصفيقًا أو اعتراضًا، وفي الوقت نفسه أردد بيني وبين نفسي أنه ليست هناك نعمة دنيوية أعظم من أن يكون الإنسان «آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه» كما قال سيدنا المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، وهذه النعم لا يقدرها إلا من يفهم خطورة الانفلات، وانعدام التماسك، وغياب صوت الحكمة.
في هذا الزمن الذي يتداعى فيه الضبط، تتضاعف قيمة الالتفاف الوطني، والاعتزاز بقيادة تحسن التقدير، وتعرف متى تتقدم، ومتى تتريث، فالوطن ليس شعارًا عابرًا، بل موقف يبنى كل يوم، والوطن ليس ظرفًا مؤقتًا، بل مصير دائم، وكل ما يقال أو يفعل تجاهه، إما أن يحفظه، أو يثقله، والصياح لا يجدي، والحكيم من يملك بعد النظر، وعمق السكون، ويعرف أنه في زمن تبدل المواقف، وتصارع النبرات؛ لا أعظم من المحافظة على الروح الهادئة التي تزن الكلمة قبل النطق بها، والتزام العيش الشريف، ومن يفعل ذلك سيجد مكانه محفوظًا حين تعود الأمور إلى مواضعها، وعندها سيعرف بيقين أن الخوف من الرشقات والصواريخ، ليس بأشد من الخوف من اختلال المعايير، ولا بأولى من أن يترك ما لا يعنيه، وينضم إلى ما لا ينفعه، ويغمض بصيرته قبل بصره عن الحكمة اللقمانية الشهيرة: «الصمت حكمة، وقليل فاعله».
أختم بأن علينا ونحن في هذا العالم الطافح بالمشكلات، أن ندرك أن الاستقرار لا يمكن أن يصنعه سلاح الغالبين، ولا شبكاتهم ولا حتى تقنياتهم؛ بل الاعتراف المتبادل بالحقوق، والاحتكام إلى قيم العدالة، وصناعة جيل يرى في حسن الجوار ضمانًا للأمان، وفي التعايش الصادق سبيلًا للبقاء، وفي المشاركة الفاعلة طريقًا للنجاة.. اللهم أطفئ لهيب الفتن، وأدم علينا نعمة الأمن والأمان، ولا تمكن من يريد إطفاء النيران بالنيران.