التفوق التكنولوجي الإسرائيلي يظهر جليًا في تحويل الرقابة إلى فعل استراتيجي. فخلف شعار «الديمقراطية» تخفي إسرائيل واحدة من أعرق آليات التعتيم الإعلامي في العالم. «الرقابة العسكرية»- التابعة لشعبة الاستخبارات «أمان»- التي لا تكتفي بحذف الأخبار، بل تصنع روايات بديلة. فخلال الهجمات الإيرانية الأخيرة، منعت السلطات الإسرائيلية الإعلان عن أرقام الخسائر البشرية أو الدمار في المواقع الحيوية، واكتفت بتصريحات غامضة عن «أضرار طفيفة»، رغم انتشار مقاطع مصورة تظهر حرائق في مواقع حساسة مثل مصفاة حيفا. والأكثر إثارة هو تعاقد تل أبيب مع منصات مثل «فيسبوك» و«تويتر» لحذف المحتوى «الحساس» المتعلق بالضربات، بل وإغلاق قنوات على «تيليجرام» تنقل مشاهد لم ترد في الرواية الرسمية. هذه الآليات المحكمة تخدم أهدافًا متعددة، منها حماية حكومة نتنياهو من النقد، ومنع انهيار معنويات الجمهور، والحفاظ على استقرار البورصة التي هبطت 7.5 % بعد تسريب صور الدمار، والأهم: حرمان إيران من توظيف هذه الصور في حربها النفسية.
وفي المقابل، تتحول الهزيمة العسكرية الإيرانية إلى «انتصارات إعلامية» عبر آلية ممنهجة. مثل تحويل تدمير استوديو التلفزيون الرسمي في طهران إلى أسطورة، عبر بث لقطات «المذيعة» وهي تقدم النشرات من بين الأنقاض، لتسويق نموذج للصمود الوطني. وكذلك تحويل ضربات الدرونز الإيرانية إلى «عاصفة نارية أخافت إسرائيل»، بينما الواقع أن 80 % منها تم اعتراضها، كما يتزايد استخدام نظرية المؤامرة لتبرير الثغرات الأمنية، كاتهام الولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتورط في اغتيال العلماء النوويين.
وليس سرًا أن هذه الإستراتيجية ليست بالقوة الكافية لتوجيه الشارع الإيراني. فبينما تروج وسائل الإعلام الرسمية لخطاب «العدو الخارجي» تخرج أصوات شعبية تطالب بـ«وقف المغامرات الخارجية» والتركيز على الأزمات المعيشية.
نرصد أيضا قصص شبكات التجسس الإسرائيلية، التي تصب في الحرب النفسية، إذ إن الكشف المفاجئ عن قصص الجواسيس وفضائح السياسيين، خلال ذروة التصعيد لم يكن سوى ضربة نفسية محسوبة التوقيت. وبغض النظر عن مصداقية التفاصيل، فقد حققت الرواية هدفها في بث الشك في قدرات الأمن.
لكن المفارقة الأكبر تكمن في الاختراق الإسرائيلي للعقل الجمعي الغربي. فبينما تصور إسرائيل نفسها «ضحية دائمة» أمام الرأي العام الدولي، تستخدم في المقابل التكنولوجيًا في أعمال الاختراق للمواقع الإلكترونية والبث التلفزيوني، وتوجيه رسائل مخصصة عبر منصات التواصل للجمهور الإيراني باللغة الفارسية، مستغلة تراجع الوضع الاقتصادي في إيران. كما يلاحظ تنسيق الخطاب الإعلامي مع حلفاء إسرائيل لتبرير الضربات كـ«دفاع ضروري» رغم انتهاك القانون الدولي.
في النهاية، تثبت هذه الحرب أن الإعلام قد يصنع أساطير مؤقتة، لكنه حتمًا لا يبني أنظمة دفاع حقيقية. فصواريخ «الردع» والخطابات النارية عن «سحق العدو» تضيع في الفراغ عندما تُقارن بصمت شبكات الدفاع الجوي أثناء الهجمات.
التاريخ لا يُكتب بالروايات المعدة في أستوديوهات التلفزيون، بل بالحقائق المحفورة في ذاكرة الشعوب، والأوطان لا تُحمى بالهاشتاقات، بل بالبنى التحتية التي تصمد تحت النيران، وبالأنظمة المتوازنة التي تختار حماية شعوبها بدلاً من خوض مغامرات غير محسوبة العواقب.