في الوقت الذي تتسارع فيه الخطوات السعودية نحو استشراف المستقبل عبر إستراتيجيات تقودها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا»، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة ثورية لا غنى عنها في مواجهة الكوارث عالميًا، فمن خلال تحليل صور الأقمار الصناعية والبيانات الضخمة، بات بإمكان الخبراء تقدير حجم الأضرار خلال ساعات بدلاً من أسابيع، وتوجيه المساعدات بدقة متناهية.

وكشف تقرير حديث صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) كيف نجحت هذه «العيون الاصطناعية»، «الذكاء الاصطناعي» في المساهمة بإنقاذ الأرواح، وتحليل آثار الزلازل والفيضانات والكوارث المدمرة، مقدمةً نموذجًا عالميًا يتقاطع مع الرؤية السعودية في بناء مستقبل أكثر أمانًا عبر الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا.

ثورة في قلب الكارثة


في 28 سبتمبر 2018، ضرب زلزال مدمر جزيرة سولاويسي الإندونيسية بقوة 7.5 درجة، تبعته أمواج تسونامي عاتية، الصورة كانت ضبابية: طرق مقطوعة، اتصالات شبه معدومة، ومأساة إنسانية لا يُعرف حجمها، لكن على بُعد آلاف الكيلومترات، بدأت «العيون الاصطناعية» في الفضاء برسم صورة دقيقة للأضرار.

وبحسب تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تمكنت نماذج الذكاء الاصطناعي، المدربة على آلاف الصور عالية الدقة (50 سنتيمتر لكل بكسل)، من تحديد المباني المدمرة ورسم خريطة للخسائر في مدينة بالو خلال 72 ساعة فقط.

تقنيات مثل (Mask R-CNN) و(U-Net) لعبت دورًا محوريًا في التمييز بين المباني السليمة والمناطق المنكوبة، ونجحت في تحديد أي مبنى تضرر بنسبة تزيد على 20% من مساحته.

مهمة كانت تحتاج أسابيع من العمل الميداني أصبحت تُنجز في 3 أيام فقط، وبمستوى دقة يحمي أرواح المنقذين، ويختصر معاناة الضحايا.

الدرون يقيم الفيضانات

في 15 يونيو 2021، تسببت الأمطار الغزيرة في نيبال في فيضانات مدمرة في منطقة ميلاامشي، استخدمت شبكة الطائرات دون طيار النيبالية (Nepal Flying Labs) طائراتها لتوثيق الأضرار، وتقديم تقييم سريع للمناطق المتضررة، ساهمت هذه التقنية في تحسين استجابة فرق الإغاثة وتوجيه المساعدات إلى المناطق الأكثر احتياجًا.

رصد الأعاصير

في نوفمبر 2020، ضرب إعصار لوتا منطقة البحر الكاريبي، مما أدى إلى أضرار جسيمة، استخدمت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) صور الأقمار الصناعية وتقنيات الذكاء الاصطناعي لتقييم الأضرار في جزيرة بروفيدنسيا الكولومبية، أظهرت النتائج أن النموذج حقق دقة تصل إلى 97.5% في تحديد شدة الأضرار، مما ساعد في تحسين استجابة فرق الإغاثة وتوجيه المساعدات بشكل أكثر فعالية.

ذكاء يتغذى على البيانات

أكد التقرير أن سر قوة الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحليل الصور وحدها، بل في دمجها مع طبقات أخرى من البيانات: خرائط استخدامات الأراضي، الكثافة السكانية، بل وحتى منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، ففي أعقاب الكوارث، يتجه المواطنون إلى «تويتر» أو «فيسبوك» لطلب المساعدة، ما يوفر للأنظمة الذكية بيانات آنية تُستخدم لرسم خريطة حرارية للأماكن الأكثر تضررًا.

إلى جانب الأقمار الصناعية، أثبتت الطائرات بدون طيار «الدرونز» فعاليتها التكتيكية، فبينما تمنح الأقمار رؤية شاملة، تقدم الدرونز صورًا تفصيلية من ارتفاعات منخفضة.

في فيضانات نيبال 2021 مثلاً، لم تتمكن الأقمار الصناعية من الرصد بسبب الغيوم الكثيفة، لكن الدرونز حلّقت فوق القرى الجبلية المعزولة، لتوثّق حجم الأضرار وتوجّه المساعدات بدقة.

استثمار السعودية الإستراتيجي

في السعودية، لا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة تقنية فحسب، بل كجزء من إستراتيجية وطنية متكاملة، وتقود «سدايا» منظومة متنامية تستهدف تعزيز الأمن الوطني وحماية الأرواح،

في ميدان إدارة الأزمات، يتجاوز التطبيق حدود الاستجابة الفورية ليصل إلى التوقع المسبق، فالمركز الوطني للعمليات الأمنية يعمل على منصات تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل أنماط البلاغات، ورصد بؤر الخطر قبل وقوعها، مما يتيح توجيه الفرق الميدانية بسرعة وكفاءة.

أما المركز الوطني للأرصاد، فقد عزز قدراته من خلال دمج الذكاء الاصطناعي، مع بيانات ضخمة من الرادارات والأقمار الصناعية، ما رفع دقة التنبؤ بالسيول والعواصف الغبارية المتطرفة.

هذه القدرة على إصدار تحذيرات استباقية تعني إنقاذ مزيد من الأرواح وتقليل الخسائر الاقتصادية، ووضع المملكة في موقع الريادة بمجال إدارة الكوارث على المستويين المحلي والدولي.

أبعاد وتحديات

يرى التقرير أنه على الرغم من الإنجازات الهائلة، لا يخلو الطريق من تحديات، ومن أولها فجوة البيانات، إذ تفتقر كثير من الدول النامية، وهي الأكثر عرضة للكوارث، إلى الخرائط الرقمية والبيانات التاريخية اللازمة لتدريب النماذج..

وهنا يبرز دور التعاون الدولي ومبادرات البيانات المفتوحة.

أما التحدي الثاني فهو التكلفة، فالأنظمة لا تقتصر على البرمجيات والأقمار الصناعية، بل تشمل تدريب الكفاءات البشرية، وبناء قدرات وطنية قادرة على تفسير المخرجات واتخاذ قرارات سريعة.

أما التحدي الثالث فهو البعد الأخلاقي، فاستخدام بيانات الهواتف المحمولة أو منشورات التواصل الاجتماعي يطرح أسئلة حساسة حول حماية الخصوصية في لحظات الضعف، كما يجب ضمان ألا تؤدي هذه الأدوات إلى ما يُعرف بـ«التمييز الخوارزمي»، بحيث تذهب المساعدات للمناطق الأكثر حضورًا رقميًا بينما تُهمل المناطق الفقيرة الأقل ارتباطًا بالشبكة.