لم تعد الصورة في الخطاب السياسي مجرد عنصر ثانوي، بل ركيزة يستند عليها، وتحولت إلى أداة مركزية في هندسة الإدراك الجماهيري وصياغة العلاقات الرمزية بين السلطة والجمهور والعلاقات الدولية كذلك. لقد تجاوزت الصورة وظيفتها التوثيقية لتصبح وسيلة استراتيجية تُستخدم بوعي في بناء السرديات السياسية، وتوجيه الانفعالات، وتشكيل القناعات، بل وإعادة ترتيب موازين القوة. ففي كل مشهد مصوّر لرئيس دولة، أو لقطة ملتقطة في سياق سياسي حساس، تتجه وسائل الإعلام والمحللون ومهندسو التأثير إلى تفكيك رمزية الصورة، وتحليل دلالاتها التعبوية والإقناعية. فالصورة لم تعد بريئة أو عفوية، بل تُنتج وتُصاغ ضمن منظومة تأثير مدروسة، تستهدف اللاوعي الجمعي، وتُعيد تشكيل الواقع الرمزي للجمهور. فنحن أما جيل بصري بامتياز، حيث تراجعت سلطة الكلمة أمام قوة الصورة. فالصورة تُفعّل الانفعالات، وتُعيد تشكيل الإدراك، وتُستخدم في صناعة الشرعية أو نزعها، في التوحيد أو الاستقطاب، في الإقناع أو التلاعب. إنها خطاب بصري قائم بذاته، يُبنى على فهم دقيق لآليات الإدراك البشري، ويُختزل فيه الواقع المعقد في مشهد واحد قادر على تحريك الجماهير وتوجيه السياسات. ومن أبرز الأمثلة على توظيف الصورة سياسيًا، تلك التي نشرها البيت الأبيض للرئيس الأمريكي دونالد ترمب خلال اجتماعاته مع قادة الدول الأوروبية مؤخرًا. فقد أثارت الصور موجة من التفسيرات، حيث شبّه بعض المعلقين القادة الأوروبيين بـ«طلاب أمام المدير الأمريكي»، في إشارة إلى اختلال رمزي في ميزان القوة. بينما رأى آخرون أن الصورة تحمل رسالة متعمدة مفادها أن «أوروبا ليست ندًا، بل تابع ينتظر التعليمات من أمريكا». مشهد جلوس القادة الأوروبيين في صف واحد أمام ترمب بدا وكأنه مشهد إداري، حيث يقدم الموظفون تقاريرهم لمدير شركة لا رؤساء دول يمثلون قارة بأكملها وهي الشخصية التي يفضلها الرئيس ترمب. هذا المشهد يعيد إلى الأذهان موقف الرئيس الشيشاني سليم خان يندرباييف خلال مفاوضاته مع الرئيس الروسي بوريس يلتسن، حين رفض الجلوس على طاولة تفاوض تُظهره في موقع أدنى، وأصر على تغيير مكان الجلوس ليكون وجهًا لوجه، في إشارة رمزية إلى الندية السياسية التي افتقدتها أوروبا في لقطة ترمب.
الصورة السياسية لا تكتفي بإعادة إنتاج السلطة، بل تلعب دورًا حاسمًا في تحريك الجماهير، وتوجيه إيقاع الانفعالات والخطابات. ومن أبرز الشواهد على ذلك: صورة سقوط تمثال صدام حسين عام 2003 حيث استُغلت لتقديم الحرب على العراق كتحرير، وتم تسويقها كـ«لعبة فيديو»، بهدف صرف النظر عن الدمار الحقيقي الذي خلفه الغزو. كذلك صورة عنصر من ميليشيا النمور الصربية وهو يركل جثة امرأة مسلمة: التُقطت قبل اندلاع الحرب رسميًا، وأسهمت في وضع الصراع الصربي–البوسني على الساحة العالمية، واستخدمت لاحقًا لإدانة جرائم التطهير العرقي. وصورة الطفل السوري عمران عندما تحولت إلى أيقونة للحرب في سوريا، وانتشرت عالميًا، وتم توظيفها سياسيًا لبناء رأي عام مضاد للنظام السوري، عبر استثارة المشاعر الإنسانية. هذه الصور لم تكن مجرد توثيق للحظة، بل كانت أدوات رمزية تُستخدم لإعادة تشكيل الخطاب السياسي، وتوجيه الإدراك، وتحفيز الاستجابات العاطفية لدى الجماهير والقيادات على حد سواء. فالصورة السياسية هي سردية بصرية تُصمم لتستهدف المشاعر قبل الأفكار، وتُبنى على فهم عميق لآليات الإدراك البشري. إنها تختصر الواقع، وتُعيد إنتاجه، وتُفعّل الانفعالات، وتُعيد ترتيب العلاقات السياسية دون الحاجة إلى خطاب لفظي مباشر. في عصر البصر، من يملك الصورة يملك القدرة على تشكيل الوعي، وصناعة الرمزية، وتوجيه الجماهير.