فيما اجتاحت أوروبا موجة صاخبة من التظاهرات ضد رفع سن التقاعد، وسط مؤشرات تؤكد أن القارة الأوروبية تذهب أبعد وأبعد في استحقاقها لقب القارة العجوز نظرا لنسبة كبار السن فيها، وعلى الأخص أولئك الذين يغادرون سوق العمل، بدت الصورة معاكسة تماما في المملكة العربية السعودية التي يشكل الشباب تحت الـ30 سنة نحو 67% من السكان، ما يوحي بقوة عمل ضخمة تتدفق سنويا إلى السوق.

ويبدو العالم بالنظر إلى هاتين الصورتين على طرفي نقيض، حيث تتخلق أزمة ديموغرافية صامتة تعيد تشكيل أسواق العمل العالمية بشكل كلي. حيث تواجه القوى الاقتصادية التقليدية في الغرب «شتاء ديموغرافيا» يهدد بتقلص القوى العاملة، فيما تواجه السعودية «ربيعًا ديموغرافيًا» بالنظر إلى نسبة شبابها، لكن ذلك يشكل بدوره تحديًا مغايرًا، يتعلق بمهمة توفير فرص عمل لكل هؤلاء المقبلين على السوق.

هذه المفارقة العميقة ما بين الاقتصادات التقليدية، والاقتصاد السعودي الناهض بقوة، لا تحدد مستقبل هذه الاقتصادات فحسب، بل تقدم دروسًا غير متوقعة يمكن للجميع تعلمها.


الغرب والشتاء الديموغرافي

كشف تقرير حديث صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) عن أن التحدي الأكبر الذي يواجه الدول المتقدمة، وعلى رأسها الدول الغربية اليوم لم يعد البطالة، بل نقص العمالة. فخروج جيل «طفرة المواليد» ــ وهو الجيل الذي ولد بين عامي 1946 (أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) و1964 ــ إلى التقاعد ترك فراغًا متزايدًا في أسواق العمل، حيث تشير التوقعات إلى أن معدل نمو الناتج المحلي للفرد سيتراجع من متوسط 1% سنويًا إلى 0.6% فقط حتى عام 2060، أي انخفاض يقارب 40% مقارنة بالمسار التاريخي.

هذا التباطؤ لا يُقرأ في المؤشرات الاقتصادية فقط، بل يُترجم إلى ضغط مالي غير مسبوق على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية. ففي عام 2060، سيرتفع معدل الإعالة في هذه الدول من 31% حاليًا إلى 52%، أي أن كل عاملين تقريبًا سيكونان مسؤولين عن إعالة متقاعد واحد، وهو عبء مالي واجتماعي يصعب تحمله دون إصلاحات جذرية. ولذلك عملت بعض الدول الأوروبية على رفع سن التقاعد للاحتفاظ بالعاملين لأطول وقت ممكن في سوق العمل بدل تحولهم إلى مجرد عاطلين يكلفون خزائن تلك الدول مبالغ طائلة كمرتبات تقاعدية.

ويختلف سن التقاعد في أوروبا، لكنه يراوح حول متوسط 65 سنة، مع توجه لرفعه إلى 66 و67 سنة، وهو السن المعتمد حاليا في السويد والدنمارك وألمانيا وبريطانيا مثلا، و68 في بعض السياقات في إيطاليا، فيما تسعى الدنمارك إلى رفعه إلى 70 عامًا بحلول 2040.

الدول الأكثر تأثرا

لن تتوزع آثار هذه الأزمة بالتساوي. فبحلول 2060، ستشهد كوريا الجنوبية انخفاضًا في قوة العمل بنسبة 46%، فيما ستتراجع إيطاليا، إسبانيا، واليابان بأكثر من 30% من سكانها في سن العمل.

هذه التغيرات تعني تقلصًا في القدرة الإنتاجية وتآكلًا تدريجيًا في تنافسية الاقتصادات الغربية، ما لم يتم إدماج حلول مبتكرة مثل الهجرة النظامية، زيادة مشاركة النساء، أو إعادة تأهيل العمال الأكبر سنًا.

ربيع الشباب السعودي

على الطرف الآخر من المشهد، تبدو السعودية في وضع معاكس تمامًا. إذ يشكل الشباب تحت الثلاثين نحو 67% من السكان، وهو ما يخلق قوة عمل ضخمة تتدفق إلى السوق سنويًا. غير أن هذا «الربيع الديموغرافي» يتحول إلى تحدٍ معقد يتطلب خلق وظائف نوعية ومستدامة.

رؤية 2030 جاءت كاستجابة مباشرة لهذه التحديات، عبر إطلاق مشاريع عملاقة وتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط. لكن التحدي السعودي يتجاوز الكم إلى الكيف. فالفجوة بين مخرجات التعليم التقليدي ومتطلبات اقتصاد المستقبل والذكاء الاصطناعي والسياحة والطاقة المتجددة تشكل عقبة رئيسة أمام الاستفادة من هذه الطاقة البشرية الهائلة.

دروس متبادلة

لا يبدو غريبًا أن يتعلم الغرب من السعودية أو العكس، لكن الحقيقة أن كلا الطرفين يملك ما ينقص الآخر. الغرب بحاجة إلى جرأة التحول التي جسدتها السعودية في رؤيتها الطموحة، بينما تحتاج السعودية إلى خبرة الغرب في بناء أنظمة اجتماعية مرنة ومستدامة.

ففي الغرب، مشاركة ثلث العمال فقط من الفئة العمرية 60 - 65 عامًا في برامج التدريب المستمر تكشف عن قصور حاد في الاستثمار برأس المال البشري المتقدم في العمر. ولو تم رفع هذه النسبة، لكان بالإمكان سد جزء كبير من الفجوة في الإنتاجية. في المقابل، أثبتت السعودية أن الاستثمار في تمكين المرأة وزيادة مشاركتها الاقتصادية يمكن أن يكون محركًا هائلًا للنمو، وهو درس قد يستفيد منه الغرب أيضًا رغم ارتفاع مستويات مشاركة المرأة عنده.

ضغوط الأنظمة

في السعودية يتجسد الضغط الأكبر على نظام التعليم وفرص العمل، حيث يتطلب استيعاب أعداد الخريجين ضخ استثمارات ضخمة في البنية التعليمية والتدريبية. أما في الغرب، فالضغط متركز على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية، حيث يشكل تمويل حياة أطول لعدد أكبر من المتقاعدين تحديًا جوهريًا يتجاوز قدرة النماذج التقليدية.

الحلول الممكنة

الدروس المستخلصة من كلا الطرفين تشير إلى أن الحل ليس في إصلاح قطاع واحد بل في تبني إستراتيجية شاملة.

ففي الغرب تعد إطالة الحياة العملية عبر تشجيع كبار السن على الاستمرار في العمل، وإصلاح أنظمة التقاعد، والاستثمار في إعادة التدريب، إضافة إلى استقطاب المهاجرين ودمجهم في السوق.

أما في السعودية فتتمثل في تسريع وتيرة التنويع الاقتصادي، الاستثمار في التعليم الرقمي والتقني، تعزيز مشاركة المرأة، وإعادة تصميم سوق العمل ليستوعب الطاقات الشابة.

صورة معكوسة

تشكل الفئة دون الثلاثين نحو 67% من سكان السعودية، في حين تواجه دول الغرب شيخوخة متسارعة تقلص القوى العاملة وتضغط على النمو الاقتصادي. تعتمد المملكة على العمالة الوافدة مع خطط للتوطين، بينما يرى الغرب في الهجرة المنظمة حلًا لتعويض النقص. كما أصبحت مشاركة المرأة في السعودية فرصة للنمو الاقتصادي، مقابل استمرار فجوة الأجور والمناصب في الغرب، فيما تراهن المملكة على رؤية 2030 لبناء اقتصاد متنوع، ويعتمد الغرب على إصلاح أنظمة التقاعد وإطالة العمر العملي.

تحد وحماية

لا تعد الأزمة الديموغرافية قدرًا حتميًا، بل يمكن تحويلها إلى فرصة لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. فالسعودية تقف أمام تحدي تحويل «وفرة الشباب» إلى قوة دفع اقتصادية، بينما يقف الغرب أمام تحدي حماية اقتصاده من «شتاء الشيخوخة». وكلاهما يحتاج إلى إعادة تعريف العلاقة بين العمل والعمر، وبين التعليم والإنتاجية، وبين النمو والعدالة الاجتماعية.

في النهاية، يمكن تلخيص المشهد في عبارة واحدة: السعودية تواجه تحدي وفرة الشباب، بينما يواجه الغرب تحدي شيخوخة المجتمع.. ومع ذلك فإن مستقبل العمل العالمي مرهون بتعلم كل طرف من الآخر.

حقائق تواجهها الدول التي تعاني شيخوخة مواردها البشرية

1ـ العبء المالي على العاملين في بعض الدول قد يصل إلى 70% من دخل الفرد العامل لدعم المتقاعدين.

2ـ فجوة رقمية بين الأجيال تصل إلى 37% في بعض الاقتصادات مثل كوريا الجنوبية.

3ـ 47% من العمال بين 55 و64 عامًا يتجهون مباشرة إلى التقاعد عند فقدان وظائفهم.

4ـ الأجور الحقيقية في نصف الدول الغربية ودول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ما زالت أقل من مستوياتها قبل 2021 ما يعكس تراجع القوة الشرائية.

5ـ الجمع بين سياسات توظيف النساء وكبار السن والمهاجرين يمكن أن يعوض 70% من الخسارة المتوقعة في النمو.

تحديات الشيخوخة في الغرب

ـ القوى العاملة ستنكمش 8% بحلول 2060

ـ كل 100 عامل سيدعمون 52 متقاعدًا

ـ النمو الاقتصادي سيتراجع 40%

ـ 47% من كبار السن يتقاعدون عند فقدان وظائفهم

ـ فجوة المهارات بين الأجيال تصل إلى 37%

سن التقاعد في بعض الدول

الدنمارك

67 وتسعى لرفعه إلى 70 بحلول 2040

ألمانيا

67

المملكة المتحدة

66

إيطاليا

67 أو 68

روسيا

63 للرجال و58 للنساء

الولايات المتحدة

67

اليابان

65

كندا

65

السويد

67

الصين

60 للرجال

السعودية

60

مصر

60

لبنان

64