الحشرات الميكروية في السماء
والفكرة التي بدت يومًا ما خيالاً علميًا في عالم مجهري تحاكي فيه الروبوتات الصغيرة حركات الحشرات والأسماك والمخلوقات الدقيقة. أصبحت اليوم مجالا عسكريًا واعدًا، حيث تعترف الوكالة بأن الروبوتات الطائرة بحجم الحشرات قد تُحدث تحولاً جذريًا في أساليب الحرب والاستخبارات.
من أبرز الأمثلة على هذه التقنيات «روبوبي» (RoboBee) الذي طُوّر في معهد وايس بجامعة هارفارد. يزن هذا الروبوت أقل من عُشر جرام، وتُرفرف أجنحته مئات المرات في الثانية بطريقة تُحاكي تمامًا أسلوب الطيران لدى الحشرات. ورغم صغر حجمه، فإن إمكاناته تثير اهتمامًا عسكريًا كبيرًا. فمنصة استطلاع بهذا الحجم قادرة على الوصول إلى أماكن مغلقة أو محصنة، بل وحتى دخول المباني المنهارة لجمع معلومات استخباراتية أو للمشاركة في عمليات إنقاذ.
أكثر فعالية في المهام المعقدة
وتدرك وكالة داربا أن هذه الروبوتات قادرة على العمل بشكل منفرد أو ضمن أسراب، وهو ما يجعلها أكثر فاعلية في المهام المعقدة. فبينما تُستخدم الطائرات المسيّرة التقليدية لأغراض الاستطلاع أو الهجوم، توفر الروبوتات المجهرية قدرة على التخفي والاندماج في البيئة المحيطة، ما يجعلها أداة مثالية للمراقبة دون لفت الانتباه. غير أن التحديات التقنية ما زالت قائمة، وأبرزها يتعلق بإمدادات الطاقة والتحكم الذاتي في هذا النطاق بالغ الصغر. ومع ذلك، فإن النماذج الأولية أثبتت جدوى الفكرة، ما يجعل مسألة دخولها الخدمة الميدانية مسألة وقت ليس إلا. روبوتات تحاكي الكائنات البحرية
ولم تقتصر الجهود على الأجواء، بل امتدت إلى أعماق البحار حيث يطوّر العلماء نماذج مستوحاة من قناديل البحر والأسماك. ومن أبرز هذه الابتكارات «الهلام الروبوتي»، وهو جهاز طُوّر بدعم من مكتب البحوث البحرية ووكالة داربا. يعتمد هذا الروبوت على عضلات اصطناعية تنقبض استجابةً لوقود الهيدروجين والأكسجين، ما يُحاكي نبضات قنديل البحر في الحركة.
وميزة هذه الروبوتات تكمن في قدرتها على السباحة بصمت ومراقبة البيئات البحرية الحساسة دون إزعاج الحياة البرية أو تنبيه السفن والمراقبين البشريين. وهو ما يجعلها أداة مثالية للتجسس على الموانئ والسواحل أو لمراقبة التحركات البحرية للخصوم. كما أن صغر حجمها ومرونتها يوفران لها إمكانات واسعة في العمليات السرية، وهو ما يدفع إلى استثمار متزايد في تطويرها.
على اليابسة: الروبوت الصرصور
وأما على الأرض، فقد توجهت الجهود نحو تطوير نماذج تحاكي الحشرات الزاحفة مثل الصراصير. ففي جامعة كاليفورنيا بيركلي، طُوّر «DASH» (الروبوت الديناميكي المستقل سداسي الأرجل المتمدد) الذي يُشبه في تصميمه وسرعته حركة الصرصور. يتميز هذا الروبوت بمرونته وقدرته على مقاومة قوى السحق، وهي خاصية تجعل منه أداة مثالية للعمل في بيئات خطرة مثل مناطق الحرب أو مواقع الكوارث الطبيعية.
ويُظهر الروبوت قدرة على التنقل بسرعة في مساحات ضيقة وصعبة، الأمر الذي يفتح المجال أمام استخدامه في عمليات البحث والإنقاذ، أو في تنفيذ مهام عسكرية تتطلب التسلل إلى مواقع يصعب وصول البشر أو الآليات الكبيرة إليها.
الحشرات السايبورج: نصف آلي ونصف حي
وربما يكون المشروع الأكثر إثارة للجدل هو ما يُعرف بـ «الحشرات السايبورج». تقوم الفكرة على زراعة وحدات تحكم دقيقة في شرانق العث أو الخنافس، بحيث تنمو الحشرات البالغة وفي أجسادها إلكترونيات مدمجة. ومن خلال التحفيز الكهربائي لعضلات الطيران أو قرون الاستشعار، يمكن توجيه الحشرة الحية كما لو كانت آلة.
وهذا الدمج بين الكائن الحي والتقنية يثير أسئلة أخلاقية معقدة. فمن ناحية، يوفر إمكانية غير مسبوقة للتحكم في مخلوقات صغيرة قادرة على الدخول إلى أي مكان تقريبًا. ومن ناحية أخرى، يفتح الباب أمام جدل واسع حول حدود استخدام الكائنات الحية في التطبيقات العسكرية، وما إذا كانت هذه الأبحاث تُشكل تعديًا على الطبيعة نفسها.
بين الخيال والواقع
وبالرغم من التحديات التقنية، فإن مسار التطوير يبدو واضحًا: داربا وغيرها من المؤسسات البحثية والعسكرية ماضية في استثمار مليارات الدولارات لصناعة جيل جديد من الروبوتات المجهرية. وإذا ما تم التغلب على مشكلات الطاقة والتحكم، فإن المستقبل قد يشهد جيشًا من الروبوتات التي تحاكي عالم الحشرات والكائنات الدقيقة، وتنفذ مهامًا لا تستطيع الطائرات المسيّرة التقليدية أو حتى الجنود البشر تنفيذها.ومع كل تقدم، يزداد القلق من تداعيات هذه التكنولوجيا. فالتطبيقات المدنية مثل البحث والإنقاذ أو مراقبة البيئة قد تتوارى خلف الاستخدامات العسكرية، التي تتضمن التجسس والاغتيالات وتوسيع قدرات المراقبة. كما أن طبيعة هذه الروبوتات الدقيقة تجعل من الصعب اكتشافها أو مواجهتها، ما قد يغير معادلات الأمن والحرب في المستقبل. وفي المحصلة، يبدو أن السباق نحو «التسلح الروبوتي المجهري» ليس سوى فصل جديد في تاريخ طويل من سباقات التسلح التي عرفها العالم. لكن هذه المرة، قد لا يكون السلاح صاروخًا أو دبابة، بل حشرة آلية لا تُرى بالعين المجردة، تحلق أو تزحف أو تسبح بصمت، لتُغير قواعد اللعبة بالكامل.
أبرز الأسئلة التي يثيرها مفهوم الحشرة الآلية (السايبورج) في شكل نقاط:
• الجانب الأخلاقي: هل يُعد زرع وحدات تحكم في أجساد الحشرات الحية تعديًا على حقوق الكائنات الحية واستغلالًا غير مشروع للطبيعة؟
• الرقابة والسيطرة: من يضمن عدم إساءة استخدام هذه التقنية لأغراض تجسس أو اغتيالات أو انتهاكات لخصوصية الأفراد؟
• الأمن الدولي: كيف ستتعامل الدول مع تهديد محتمل من «جيوش» غير مرئية من الحشرات السايبورج التي يمكن نشرها عبر الحدود دون اكتشافها؟
• المخاطر البيئية: هل قد تؤثر هذه الكائنات الهجينة على النظم البيئية إذا أُطلقت أو هربت من بيئات الاختبار؟
• حدود العلم: إلى أي مدى يمكن للبشر التدخل في دمج التكنولوجيا مع الكائنات الحية دون أن تتسبب في نتائج غير متوقعة أو خارج السيطرة؟