في السنوات الأخيرة بدأ الناس يدركون شيئًا جوهريًا في حياتهم النفسية: أن الضياع ليس شعورًا غامضًا كما يبدو، بل هو نتيجة غياب اتجاه واضح يقود الإنسان نحو معنى يعيش من أجله. هذا الاكتشاف البسيط كان جوهر مدرسة ألفرد أدلر منذ أكثر من مئة عام، حين قال إن الإنسان لا يتحرك بدافع ماضيه، بل بدافع أهدافه. نحن كائنات تبحث عن «الوجهة» قبل أن تبحث عن «التفسير». وهذا الوعي هو ما يجعل وضع الأهداف في العلاج النفسي ليست مجرد خطوة شكلية، بل عملية عميقة تعيد تنظيم العقل وتشكيل الطريقة التي يرى بها الإنسان نفسه والعالم.

عندما يدخل المراجع إلى العيادة وهو محاصر بالقلق أو الاكتئاب أو مشكلات العلاقات، غالبًا ما يكون مشوش الاتجاه. يعرف ما لا يريد، لكنه لا يعرف ماذا يريد. يعرف الألم، لكنه لا يعرف الطريق للخروج منه. هنا يبدأ دور المعالج في المدرسة الأدلرية: إعادة بناء «الرؤية». وضع هدف نفسي واضح ليس رفاهية، بل ضرورة لتنظيم الدماغ ومنحه خريطة يستطيع من خلالها ترتيب الأفكار والتصرفات والمشاعر.

أدلر كان يرى أن الإنسان لا ينمو إلا عندما يشعر أنه يتحرك نحو شيء. الدماغ بطبيعته يحب الاتجاهات الواضحة. الدراسات الحديثة تؤكد هذا: عندما يضع الإنسان هدفًا محددًا يبدأ الفص الجبهي في تنشيط مراكز التخطيط والتنظيم، وينخفض نشاط مناطق التشتت والقلق. كأن العقل يقول: «أخيرًا هناك طريق، لم أعد أضيع في الظلام». من هنا يأتي تأثير الهدف ليس فقط نفسيًا، بل عصبيًا أيضًا. فهو يعيد برمجة نمط التفكير، ويقلل من الفوضى الداخلية، ويوحد الطاقة الذهنية نحو وجهة واضحة.


في العلاج النفسي، وجود هدف يُعتبر نقطة تحوّل. لأن الهدف ليس كلمة تُكتب على الورق، بل عقد داخلي بين المسترشد ونفسه. هدف مثل: «أريد أن أتعلم كيف أرتاح مع مشاعري بدل أن أهرب منها»، أو «أريد أن أحسن علاقتي مع ذاتي»، أو «أريد أن أقلل من أثر الماضي على يومي». هذه الجمل الصغيرة تبدو بسيطة، لكنها تعمل كمنظم ذهني يعيد توجيه الحياة تدريجيًا.

الأهداف أيضًا تخلق ما يسميه أدلر «الاتساق الداخلي». أي أن أفكارك ومشاعرك وسلوكياتك تبدأ بالتحرك في الاتجاه نفسه. الإنسان بلا هدف يعيش في تشتت: شعوره في جهة، وسلوكه في جهة، وقراراته في جهة. أما عندما يضع هدفًا، يصبح مثل عدسة الكاميرا التي تجمع الضوء من كل الاتجاهات وتحوله إلى نقطة واحدة واضحة. وهذا الاتساق هو أحد أكبر العوامل في تخفيف الاضطرابات النفسية، لأنه يقلل من الصراع الداخلي ويزيد الإحساس بالسيطرة.

ومن زاوية إنسانية، الهدف يمنح المراجع شيئًا كان مفقودًا: الأمل. والأمل ليس شعورًا بسيطًا، بل مادة نفسية حية تُعيد تشكيل نظرة الشخص لحياته. عندما يعرف الإنسان إلى أين يذهب، تتغير نبرة صوته، وطريقة مشيته، وحتى نومه. يبدأ يرى نفسه قادرًا لا عالقًا، فاعلًا لا مفعولًا به. وهذه النقلة هي ما يجعل العلاج النفسي ينجح من جذوره.

لكن الهدف الأدلري له شروط: يجب أن يكون واقعيًا، إنسانيًا، ومنسجمًا مع قيم الشخص، لا مفروضًا عليه. ويجب أن يكون قابلًا للقياس، وقابلًا للتغيير مع نمو المراجع. الهدف ليس سجنًا؛ بل جناحًا للطيران.

في النهاية، أدلر قدم لنا فكرة بسيطة لكنها عظيمة:

الإنسان لا يُشفى فقط عندما يفهم ماضيه، بل عندما يصنع مستقبله. وعندما يجلس المراجع في العيادة ويحدد، بوعي وصدق، «ما الذي يريد أن يصبح عليه»، هنا يبدأ العلاج الحقيقي. هنا يبدأ العقل في تنظيم نفسه. هنا تبدأ الحياة في اتخاذ شكل جديد.