من منا لم يمر بمنعطفات نفسية حادة؟ فقدان شخص عزيز، أو خسارة مادية أو معنوية، إدمان، انفصال، اغتراب، أو حتى تآكل بطيء بفعل ضغوط الحياة اليومية التي لا تهدأ.

كثيرون يواصلون حياتهم كأن شيئًا لم يحدث، يذهبون إلى أعمالهم، يبتسمون، يتظاهرون أنهم بخير ظنًا منهم أنها ظروف عابرة، والحقيقة أن مثل هذه الأحداث قد لا تعبر بل تترسب عميقًا في دواخلنا، وتتراكم طبقة فوق طبقة حتى تصبح جزءًا من تكويننا النفسي والعقلي.

من هنا تأتي أهمية الحديث عن أحد أهم تطبيقات العلاج النفسي وهو العلاج القائم على الحوار، وأشير هنا إلى «العلاج السلوكي المعرفي» (CBT)، الذي يوصف بأنه يشبه «دليل استخدام» للعقل، يساعدنا على تحديد الأفكار العشوائية السلبية، وعزلها بموضوعية، ومن ثم تغيير السلوك المرتبط بها.


إنها عملية علاجية دقيقة ومدروسة، يتخللها تدريب عملي مطول يخلق مهارات حياتية دائمة، وهو علم قائم له تقنياته وأدواته، كما أثبتت الدراسات أنه يعد من أكثر الأساليب فاعلية في علاج الاكتئاب والقلق وكثير من الاضطرابات.

اللافت أنه رغم الأهمية القصوى لهذا النوع من الخدمة الصحية إلا أن الواقع يكشف عن فجوة كبيرة في الكم والكيف، من ناحية توافر الخدمة أولا، ومستواها ثانيًا، والإقبال عليها ثالثًا.

تكمن المشكلة في أن الوصول إلى هذا النوع من العلاج ليس سهلا، والمراكز التي لديها معايير جودة معتبرة قليلة مقارنة بنسبة الطلب، ما يؤدي لتأخير المواعيد وتقصير مدة الجلسة التي قد تختصر إلى «نصف ساعة»، فضلا عن ارتفاع التكلفة، بما في ذلك الجلسات التي تتم إلكترونيًا عن بعد، فالمريض الذي يذهب وهو مثقل بهموم مادية وعائلية يجد نفسه مضطرًا للاكتفاء بجلسة أو جلستين، وبعدها يتوقف رغبة في تقليل التكلفة، لكن (CBT) في جوهره علاج يعتمد على التدرج والاستمرارية، وبناء الثقة بين المريض والمعالج.

على الجانب الآخر نجد كثيرًا من العيادات النفسية في المستشفيات الحكومية تركز على الحالات الأشد اضطرابًا والتي يعتمد فيها على الحلول الدوائية والعقاقير، وقد لا تتوافر عيادات العلاج السلوكي أحيانًا، ثم إذا توافرت الخدمة نجد أنفسنا أمام سبب آخر، هو ارتباط العلاج النفسي لدى كثيرين بمعتقدات خاطئة ومخاوف من حكم الآخرين.

لقد حان الوقت لتخطي هذه الحواجز، وترسيخ نظرة إيجابية للعلاج النفسي تمامًا كما ننظر للعلاج الطبيعي، تجاهل المشكلات وعدم حصول الإنسان على الدعم المناسب لا يعني اختفاء المشكلة أو تبخر آثارها، بل يعني أنها تحولت إلى حزن مزمن، أو سلبيات شخصية، أو عوارض صحية جسدية.

أدعو لإعادة النظر في توفير هذا العلاج داخل منظومتنا الصحية، بدءًا من وجود فرق علاج متكاملة ومؤهلة داخل المستشفيات والمراكز الصحية، مع العناية بتنظيم مساحة معقولة من الوقت للجلسات مع المرضى كل حسب احتياجه، وفي المقابل نتعاون جميعًا لإحداث فارق في الوعي الجمعي تجاه العلاج النفسي، وتعزيز فكرة طلب المساعدة عند الحاجة لها، ودعم جميع التجارب الملهمة في هذا المجال.

الصحة النفسية معيار ازدهار وعنصر بقاء تخلق مجتمعًا قابلا للاستثمار في طاقاته ومكوناته، وأفرادًا قادرون على الحب والعطاء والعمل والإبداع.