مجاهد عبدالمتعالي

(نقد العقل المحض) للفيلسوف عمانوئيل كانط، (نقد العقل العربي) للمفكر محمد عابد الجابري، (نقد العقل الزنجي) للمفكر أشيل مبيمبي، كل هذه العناوين لكتبٍ تُمارس نقد العقل، فهل يسعني في مقال قصير أن أُمارس تقميشات على (نقد العقل السعودي)؟.

في البدء كانت الكلمة الدرعية، ثم ظهرت كلمة الحجاز بعاصمتها المقدسة التي استوعبت وأغنت واستغنت، فكانت (نجد الفتاة) تبحث عن موقع سياسي يستعيد فضاءها الحيوي كحاضنة شعبية أولى لعاصمة سياسية تسمى (الرياض).

ظهر النفط كحكاية أميركية محتكرة، أعادَ العمال السعوديون سرديتها بعرقهم وجهدهم لتأتي عقيدة التنمية فتثور على الحكاية، وتعيد السرد لأبطال رواية سعودية، وتترك للإرادة السياسية تطبيب الفجوة ما بين مبتغى (الخواجة) ومبتغى العمال السعوديين، فكانت الدولة مع شعبها، ومع ما هو أبعد من ذلك في صون سيادتها، فكان ميلاد (أوبك).

انتهى عقد الخمسينات والستينات الميلادية والأجواء تعبق بحرب باردة ظاهراً ساخنة باطناً وطويلة الأمد، بين شرق (اشتراكي) وغرب (رأسمالي)، بدأت السبعينات وقد أفلت عقود سبقتها بقضها اليساري وقضيضها الناصري، وقد قرر الغرب أن رأسماليته (إيمان)، ولم يعترض الشرق على أن اشتراكيته (إلحاد)، ليتحول الصراع الرأسمالي الاشتراكي على مصادر الطاقة ومناطق النفوذ في البحار الدافئة إلى صراع باسم الإيمان والإلحاد، فكيف لنا الخيرة؟، واللاعبون قد اقتسموا الأدوار، ونحن أهل التوحيد.

ليس عاصوفاً ما حصل، كان ضرورةً سياسيةً حقيقيةً، لا نندم عليها أبداً، كانت السلفية تؤمن بالطاعة لكنها ترسب دائماً في الإمامة القرشية، فإن أرادت الترقيع أتت بحديث الطاعة ولو لعبد حبشي، فكأنما الطاعة لدرء الفتنة فقط، لكنها لم تستطع تجاوز طبيعتها مهما تطبعت لصالح مفهوم العقد الاجتماعي في دولة حديثة عضو في الأمم المتحدة، فكانت حادثة الحرم وكان المهدي المنتظر، وكانت تأتأة السلفية في استنكار ما حصل دليل محاولة التطبع لصالح الدولة الحديثة ضد الطبع الكامن فيها لصالح فقه القرون الوسطى، وكان في ذلك مكسب لإخوان المسلمين ليروا في أنفسهم ما لم تره السلفية في نفسها، من فهم للعصر ولغة التحديث، وحاجة الدولة لكادر يتمتع بالأصالة والمعاصرة، وكانوا برامكة المكان في فترتهم تلك، لكن الأيديولوجيا البرمكية استطالت وطالت بيدها ما لا يكون إلا لصاحب الإرادة السياسية الوحيدة، فاستحقت صولة هارون الرشيد وحزمه بعد حلم طويل طويل.

انتهى القرن العشرين، وبدأ زمن وسائل التواصل، وبدأ الصراع الحقيقي وبشكل علني وفج ما بين السيادة والعولمة، فالعولمة تضغط باتجاه القرية الواحدة، والسيادة تناضل من أجل الهوية الخاصة، والعالم اتفق على أن العولمة قدر لازب، لكن حربهم ألا تكون تلك العولمة بمعنى الأمركة، فتعاطفَ البعض مع ميلاد الصين ولو في معركة تقنية تظهر على شكل (هواوي).

(العقل السعودي) فيه ما في (العقل العربي) من ملاحظات وميزات، لكن على المستوى الفردي نحمدالله أن كان فينا أمراء ووزراء ومثقفون ناضلوا في سبيل حماية (العقل السعودي) من الاختطاف، كاد لولا الإرادة السياسية الحازمة في آخر لحظة أن يتحول (العقل السعودي) إلى (عقل إخواني) يرى في تركيا العلمانية من الإسلام الأصيل ما لا يراه مكتوباً ومرفوعاً في راية دولته، ونظامها الأساسي للحكم.

(العقل السعودي) ما زال شاباً متوقداً لم تملأه التجاعيد كدولٍ أرهقها الاستعمار، وشتتها الأحزاب، بل قابلاً لفهم العصر الحديث، لفهم كلمة (مواطن)، لفهم معنى (عقيدة التنمية) كعقيدة سياسية ثابتة بكامل تجلياتها ومفاهيمها، ففيها الجهاد المدني، ولمحبي التأصيل الشرعي سيجدون هذا الجهاد المدني امتداداً حديثاً وعصرياً لأدبيات الجهاد الأكبر (جهاد النفس)، لكن الانشغال بالتأصيل الشرعي لكل شاردة وواردة ليس هدفاً في حد ذاته، بل المبالغة فيه هوس لم يكن في صحابة رسول الله، لكنه قطعاً كان في الخوارج كحيلة لتزكية النفس وفرزها عن عموم المسلمين، توطئة لاستحلال دماء الناس، والسعودية ليست حزباً إسلامياً، ولا تفرز نفسها على أساس دوغمائي عن المجتمع الإنساني، بل دولة فيها ما في كل الدول من مذاهب، وتستضيف العمال والمستثمرين من مختلف الديانات، ليصبح العنوان مقسماً بين (مواطن) و (مقيم) يحترمون الثقافة الاجتماعية بكل تجلياتها الطبيعية التي تخلصت من أوزار (الإخوان والسرورية)، وما عدا ذلك فخلاصات روحية يلاقي بها الفرد ربه، وليس دولته.

انتهت التقميشات العجولة على (نقد العقل السعودي) هذا العقل الذي عاش كمُنتَج أيديولوجي بامتياز، وإرهاصات تحول العقل إلى أداة فكرية مستقلة، نراها في الأفق، وفي هذا التحول من عقل بصفته أحد منتجات الأيديولوجيا السياسية لعقود مضت (عقل ناصري، عقل إخواني، عقل سلفي، عقل سروري) إلى العقل بصفته أداة نقدية تحليلية مستقلة يتربع الأمل الطبيعي في التعليم العام، والأمل الحقيقي في عقول (اللامنتمين) كطبع فطري، قبل أن توجد فيهم الملكات والمهارات الفكرية، هؤلاء -اللامنتمين- لا يظهرون إلا في المراحل العليا لأي ازدهار وتقدم حضاري، فاللامنتمي حر من ضرورات الجماهير وما تريده، لا يفكر بطريقة مثيرة للجماهير، لكنه قطعاً يفكر بطريقة تستفز القارئ النهم للمعرفة، ومن لا يعرف الفرق بين القُرَّاء والجماهير، فسيتخطفه الجمهور بوهم أنه سيد المشهد الثقافي، وهو يترهل ويترهل كي يذوي دون أن يشعر، لترى خاتمته وقد أصبح من الدواجن الثقافية الموجودة بكثرة في كل بقاع الأرض، فبهم تصنع لعبة الإعلام، وعلى أكتافهم تتحول العقول من أدوات للنقد إلى مجرد منتجات يجري تعميمها على الشعوب لتراهم نسخة واحدة، ولون واحد، وطبع واحد، وهذا ما يقلق المثقف المعقول، أما غير المعقول فقد صار صعلوكاً ضائعاً بين وهمين (نضال الستينات الآفل، واحتساب السرورية الماكر).