وضحى العتيبي

أوسكار وايلد الأديب العظيم، يرى أن العقل - كل العقل - لا يأتي إلا في فترة الشباب وكثرة الحماقات التي يرتكبونها، دائما يردد مقولته الشهيرة «أنا لست شابا كفاية لأعرف الأمور المهمة في الحياة»، عنده القبح والفقر خطايا، صحيح أن ليس لأحد أي يد فيها لكن غالبا في زعمه أن الحماقات والفضائح التي يصنعها صغار السن هي جمال الحياة، فليس للحياة طعم دون ارتكاب أكبر قدر ممكن ممن الخطايا والأخطاء.

في محادثته مع امرأة من علية القوم، كانت تناقشه ماذا كان سيصنع إن عاد به الزمن، قال أرتكب حماقات أكثر وأكثر، وأعيد ما كنت أصنع وزيادة! طبعا كل هذا الكلام، وايلد بنفسه تراجع عنه وعن أغلب نظرياته عن الذكاء ورباطة الجأش، واستطرد أخيرا بأن الإيمان هو جوهر الحياة وهو ما ينجيك من الأساس.

مشكلتي معك يا وايلد أنك أضعت نفسك، لم يكن يجدر بك أن تلقي بنفسك للتهلكة، أنت ملك للجميع، ولم يكن لحركاتك الانتحارية أي داع، لم يكن بوسعك يا وايلد مجابهة الجميع، ولم يكن اللورد مسؤوليتك!.

لست وصيا على أحد: لم يكن من الحكمة تحمل كل ما رمي في حضنك، توقعتك أكثر حصافة.

وثقت بك، أحببت أن أثق بك لأنك تمثل جمال وبهجة الدنيا، لقد كنت مثالا يحتذى به من ثقافة وعلم وكياسة، لقد كان كل شيء في صالحك.

ما هو سبب تقمصك دور البطل الإغريقي الذي يموت لهدف نبيل؟، ليته نبيل، ففي حالتك الهدف كان من بنات خيالك المتخم بقراءاتك عن هرقليطيس وعن أخيل!.

يا وايلد كنت تملك كل شيء، كل شيء بمعنى الكلمة، وأردت إثبات ذاتك وأنك لا زلت سيد اللغة وجوادها، أنت كذلك! لماذا تضع نفسك موضع الضحية الجريحة التي تصب دما وتثق بالسباع؟؟!.

أنت ترى طبيعة البشر بعين الراحمين، كنت ساذجا لتصديقك بأنك ستغير أمورا كثيرة، كنت غبيا حينما صدقت «أنك لها» أعمتك فكرة أنك ستكون من يموت لأجل قضية كيوليوس القيصر، ومن غبائك الشديد توقعت أنك منقذ روما!.

تماما كالقيصر! لماذا؟، صدقاً أود أن أعرف! .

نسيت أن طبيعة البشر لا تختلف كثيرا عن الحيوانات المفترسة، وأنك عجل سمين وستشبع الكثير الكثير... و سيظل طعم لحمك بين أنيابهم لذيذا لسنين!.

نسيت يا أيها المفكر العظيم أن خلف الإعجاب الشديد بك وبأدبك يندس حقد يملأ الكوكب والعوالم المعروفة لدى البشر، والمتخيلة لدى الفيزيائيين.

لقد وقعت في فخ نصبه لك ألد أعدائك، شخص بمثل تفكيرك وعظم حدسك، لقد وقعت في فخ نصبته أنت لنفسك، ولم تعلم أنك أنت، أنت ألد أعدائك! .

نعم يا وايلد، نعم! أنا غاضبة منك، تفرقنا السنون والأميال، وحقيقة أنك ميت وأنا لست كذلك، أنا غاضبة منك جدا.

لقد اختلقت قصة رومنسية كنت أنت بطلها، وأعجبت بأنك ستقضي نحبك بألذ طريقة عرفها الأدب:

الحب! توقعت أن الحب الذي وهبته لغيرك كان متبادلا، واطمأنت نفسك لذلك، نعم! سبب حقيقي للموت! سبب حقيقي للخلود في الأدب وفي الواقع: لكنك لم تفصلهما، الأدب والواقع!!.

يا سيد اللغة وسابر أغوارها، يا من كان صيتك معروفا داخل بلدك وخارجه... سقطت بسرعة الضوء.

من كان يتزلفك أظهر وجهه الحقيقي ووجد سببا ليحتقرك وينبذك، وينكرك أمامك! استغلك ليتلذذ بعذابك وانكسارك، رسم لك طريقا مضمونا للهاوية، «طريق الآلام»، وأهانك طوال هذا الطريق، لماذا تدير الخد الآخر؟ وفضيحتك التي تناقلتها أوروبا برمتها كانت أحاديث عابرة على وجبة رقائق الكعك والمربى والشاي الإنجليزي الداكن.. نعم ملأت الدنيا وشغلت الناس.

لماذا وقفت أمامهم لتدافع عن أدبك؟ ولماذا وقفت أمام إدوارد كارسون بالذات؟ ولماذا استذكيت أمام أشرس محام عرفته إنجلترا؟ المحكمة ليست تماما كالمسرح، اطمأننت لذلك، توقعت أنك سترفه عن الحضور تماما كما كنت تفعل في المسرح، نسيت يا عزيزي وايلد أن المحكمة ليست موطن قوتك، نسيت يا وايلد أنك ولدت بأكبر خطيئة عرفها المجتمع الإنجليزي ذلك الوقت: أنت إيرلندي! إيرلنديتك أدانتك وبقوة، إيرلنديتك ختمت على جبينك. ما أقساها من حقيقة! وددت لو أنك لم تتبختر بمعطفك الخمري ذي الفرو الصارخ، وددت لو أنك لم تتكلم بكل ثقل وتطيل في الأحرف المائلة، وددت لو أنك لم ترتد شعرك كما فعلت.. وددت لو أنك لم تشعر بالأمان في عرين الأسود، وددت لو أنك كنت أكثر حيطة وانتباهاً لتأخذ الأمر بجد، وددت لو أنك احترمت أدبك وذاتك.

إلى أوسكار وايلد، أعظم أديب مر على التاريخ، شريطة أن عاش أكثر! ليتك تريثت قليلا يا صديقي! هنالك أمور ليس لنا أي يد فيها. حقيقة ثابتة لم تصل لها إلا متأخرا جدا.

مع خالص امتناني لك، سيذكر فلان بن فلان بمجرد ذكر اسمك.

هل كانت هذه طريقتك بجمعكما معا؟ لتبقيا معا؟ حسنا سأخبرك بسر: فلان بن فلان ينكر معرفتك! ارقد بسلام فأنت لم تعش به.

كم كانت حياتك صعبة خلال السنتين اللتين قضيتهما في «سجن ريدنغ» المملوء بالمجرمين والسفاحين وبك! كم كانت أيامك رديئة ورتيبة بلا معاطفك الفاخرة وعصاك المذهبة، كم كان كل يوم يجتر من الأسى والحزن ما يكفي للفتك بك في لحظات.

الإدراك المتأخر لعنة أخرى، لم تكتف فقط بقضاء محكوميتك أنت وغيرك، بل بقيت بأفكارك التي كانت تقتات عليك كما تقتات الديدان على أجساد الأموات، تمنيت لو تثمل تثمل تثمل ثم تسقط مغشيا عليك! اثمل، الثمالة جنة خياراتك، لكنك بقيت بدون شراب، لتواجه نفسك. أحمق.

خمسة أيام استعرضت فيها في محاكمتك الشهيرة التي جعلت الناس يخرون على ركبهم في الكنائس ويرددون بصوت واحد «إلهي، القاضية، إلهي..» من كنت تدعو على العشاء يأكل معك ليتقوى بالدعاء عليك، نعم نعم.

وايلد الإيرلندي الذي نال من كل العقبات التي زجها في دربه سيده الإنجليزي سيده.... سيدك الإنجليزي سيدك الإنجليزي سيدك الإنجليزي سيدك رغما عنك، ورغما عن الإيرلنديين، ورغما عمن مات عن كرامته دفاعا، رغما عمن اندمج مع الأسياد.. رغما عنك، اسمعها مرارا وتكرارا، لا تجدي ثورة غضبك ولا يجدي تحايلك على أمور أسيادك، لأنك لن تصبح مثلهم، .

اهدأ! حسنا لا تهدأ. سيدك.. سيدك. ظننت أنه بتخرجك من جامعاتهم بأعلى الدرجات وأنك إن غلبتهم في صفوف اللغة والأساطير ستصبح أفضل منهم، ظننت أنك عندما كنت تقرأ بالفرنسية في صف القراءة، وعندما ضحك عليك فلان بن فلان ولكمته وسقط تحت الطاولة، أنك ستصبح أفضل، لم تعتقد أن هذه اللكمة سترتد عليك يوما، نسيتها، صحيح؟.

الإدراك المتأخر أدركك أيضا في سن الأربعين عندما كنت تصحو من النوم في ظلمة الليل قارس البرودة وتسمع صياح المساكين يدعون الله بآخر نفس، وحبل المشنقة يعانق رقابهم، لماذا؟ لماذا؟ قسوة، قسوة، وألم ليس بعده ألم..

تستيقظ على زقزقة العصافير في 34 شارع تايت حيث تقطن مع عائلتك الصغيرة المحترمة، تستيقظ لتقطف الورد الأبيض من حديقة بيتك المحترم، وتقول فيه شعرا «لا يسع الورد الأبيض إلا أن يكون أبيض، لم تكرهوا ذلك؟» .

لا يسعك يا وايلد إلا السعادة وعار عليك أن تأسى على نفسك في الماضي، أما الآن؟ الأسى باسمك، باسمك يا وايلد.

«لا يسع الورد الأحمر سوى أن يكون أحمر، لم تكرهوا ذلك؟»، لم يكره أحد ذلك، وقد انبثقت نظرية أنت أحد روادها إن لم تكن أنت رائدها من مراقبتك للورد! رقة وترف يا وايلد، صحيح؟.

ها أنت قد أضفت نظريات أدبية واستحدثت قواعد جديدة، ألا يجب أن تفخر؟ ألا يجب أن تحتفظ بذلك؟ ألا يجب أن تحافظ على ذلك؟ يا من كنت ترى في الفقر عيبا، عندما حكم عليك واقتادوك إلى عربة تنتظرك خارجا، كان من ينتظرونك في الخارج يبصقون عليك ويصرخون بك، كانت هذه اللحظات، ما هي إلا لحظات، هي ما أوجعك أكثر، فأنت لم تلحظ سوى الرجل الفقير الذي رأى من الدنيا ما رأى، يرفع قبعته ويحني رأسه احتراما لك، وتعاطفا جليا معك..

«الفقراء أكرم من الأغنياء، الفقراء أغنى من الأغنياء».

أحسست بذلك عندما كان فقراء «سجن ريدنغ» يقتسمون فتات خبزهم معك، يواسونك بغنى شعورهم، بكيت لأنك الآن علمت بأن من يفتقد شيئا يغدق به جزلا إن امتلكه، ولو امتلك منه يسيرا... «في سجن ريدنغ الأيام طويلة لا نعلم هل نحن مع العالم؟، في سجن ريدنغ الجدران طويلة ومصمتة، تكاد تحجب عنا السماء التي تشفق علينا بكل سحابة تمر». لم يؤلمك شيء بقدر ما آلمك وكسرك ودمرك خبر منعك من رؤية أطفالك. هل يقضي الإنسان نحبه من كثرة البكاء؟ هل تزهق روحه؟ سحقك سحقا.

هل يستمر الإنسان بعد كل هذا؟ مشكلتي معك يا وايلد.... تريث، مشاكلي معك كثيرة. تبسمت ضاحكا لليدي فلانة وقلت بأن دماءك الإيرلندية تأبى عليك الهروب، فأنت شجاع، بطل شجاع! وارتشفت من السكوتش الذهبي الدافئ وأظهرت صف أسنانك الناصعة، هل كنت تتصنع البطولة؟ أم كنت واثقا ببراءتك؟ أو كنت واثق بلغتك المتملصة؟.

خرج الجميع من حجرتك التي أجرتها في فندق الــ«سافوي» الراقي، خرج الجميع، سيارة معهم، اللورد فلان بن فلان وصدى صوته يقرع في عقلك كقرع الناقوس: أيها الأديب المتمكن: النواقيس تشير للجنائز، وكما خرج الجميع وبقيت أنت أنت، فوحدك أنت الجنازة... وحدك بعد اليوم! وكما جلست وحدك وفكرة البطل الإغريقي تسري في عقلك حتى انتشيت منها للنهاية، أعتقد بل أجزم أنك متأكد من خروجك من هذه المحنة بلا قضية تذكر، تبا لك، تبا لك مئة.

! تبا لك ألفا.... إدوارد كارسون سيبطش بك، وسيمثل بك بضراوة! سينهش بلحمك ثم سيبصقه باشمئزاز...... يا أوسكار، محبتك المماثلة والمريرة جعلتك ترى بعين من يظن أنه يرى كله شيء، جعلتك تطمئن وتشعر بسلوى من عزاء آخر.. شغفك وحبك لدرجة الجنون، شعورك ألقى على عينيك غشاوة، إن لم تكن كفيفا بذاتك فأنت تشعر بأنك لا حول لك ولا قوة، وهذا تفسير آخر.

علمت من غير ريب أنك هالك، وليس هنالك ما تخسره سوى اسمك وتاريخك وثروتك وزوجتك وولديك وأمك.. ثمن بخس، هل هذا قدرهم؟ ثمن بخس أكيد! .

حتى نفهم ما يدور في خلدك وروحك نستطيع أن نجتر العذاب الذي سقت نفسك له بمحض إرادتك، إن صح تفسيرنا الأول، أم كبلت واقتدت هناك بلا مقاومة منك. كالنعجة التي تتشدد هنا وهناك، لكنها تعلم أنها عشاء أحدهم الليلة، على طبق من ذهب تقطع بسكين مذهبة، وتؤكل بشوكة مذهبة، بيد في خنصرها خاتم عليه شعار ما...

فكما وقعت عبارات اللورد فلان بن فلان في كينونتك علمت أنك لن تتراجع أبدا، فاللورد فلان بن فلان يتبجح ببسالة لم تشعر بها قط. هو دون بسالة أو شرف يذكر من الأساس! لكن أنت؟ أنت؟ أنت؟؟ «نعم، نحن لم نصنع شيئا لنهرب».

لماذا تعتقد أن الكارثة ستطاله هو وليس أنت؟ أنت من كنت في فوهة المدفع! لماذا أجزت له الحديث باسمك؟ ولماذا صدقت بأن تدمير حياتك ومن تعيل وغيرهم الكثير منطق صائب لتغذية الحب؟ لماذا أصبحت ساذجا بين ليلة وضحاها؟.

أسئلة تخجلك لأنك تعلم ألا سبب لكل هذا.

تعلم ذلك علم اليقين. وإن افترضنا ذلك، لماذا؟ لماذا؟ حقا؟؟.

يسألك المحامي الأشد ضراوة في تاريخ الحقوق الإنجليزي، بضعف ووهن شديدين، في أول جلسة محاكمة علنية شهدتها أوروبا بأكملها، ارتاح بالك فقد وثقت بأنه لا دليل يملكه ضدك! فمن يملك دليلا يكون واثقا قطعا! بدأت بالاستعراض وإضحاك الحضور على كارسون المحامي المسكين، فقد تحولت قاعة المحكمة لخشبة المسرح!! أبليت بلاء حسنا وأحرجته وألجمته.

لا تنس يا وايلد أن كارسون في صف اللغة الإغريقية عندما كنتما ترتادان جامعة أكسفورد كان ينفر منك ويحقد عليك لبراعتك في الصفوف التي لم يستطع إليها سبيلا، وليس لهذا السبب فقط.. سبب لا يعرفه إلا أنت، ولم تعترف به علنا إلا بعد أن تم افتضاحك بغير قصد، بزلة لسان منك عندها ترنحت وفقدت الوعي لحظات، فأنت الآن هالك.

لم يكن يضطر ليجابهك لأنه عالم أنكما كل سار في درب آخر، لا تظنه غفل أو نسي سخريتك منه ذات يوم!.

نحن نسير في هذا العالم باختيارنا، و أنت اخترت دربك بكامل عقلك ووعيك، تزوجت وأنجبت زوجتك ولدين هما كل حياتك.. لكنهما لم يكونا كذلك في آخر الأمر..

تمشي الآن بمعطف مشقوق وجسد واهن في شوارع باريس منفاك الاختياري، وتلتقي بامرأة كنتما صديقين فيما مضى تهرع لها لتقول بصوت مخنوق «أعطيني مما أعطاك الله»، فتمد يدها لك آسية عليك لتأخذ ما جادت به نفسها وتهرب خجلا..

على فراش الموت يا وايلد تحدق في اللوحة الجميلة فوق سريرك «الفن لأجل الفن» أليس كذلك يا وايلد؟

«أحدهما سيذهب أولا، أنا أو هي» لتذهب أنت أولا.

مع السلامة. مع السلامة يا أوسكار فينجل أوفلاهرتي ويلز وايلد 1854-1900

وإلى حين بعث الأموات،

دعوه في الهدوء يقطن:

لا داعي لإراقة الدموع البليدة، أو تنهد الحسرة كالرياح

فهو قد قتل ما يحب،

ولذا عليه أن يموت.

لكن كل يذبح ما يحب، وليسمع ذلك كل،

البعض يفعلها بنظرة مريرة، والبعض بكلمة طيبة،

يفعلها الجبان بقبلة،

والشجاع من يذبح بالسيف!