يوسف أبا الخيل

عنوان هذه القصة كان لثلاثة مفكرين وفلاسفة عرب، ابن سينا، وابن طفيل، والسهروردي، ولكن لم يشتهر منها إلا قصة ابن طفيل. والقصة تندرج تحت أسلوب الأدب الروائي الرمزي، الذي يخفي بالتعمية والتورية مقاصد دينية، أو فلسفية يقصدها بذاتها، ولا يستطيع التصريح بها على نحو مباشر.

يقول الدكتور (عصمت نصار) في كتابه (خطابات فلسفية في ثياب أدبية) ما نصه: «تعد قصة حي بن يقظان من أطرف وأعمق الكتابات الفلسفية العربية التي صُبت في قالب أدبي. وهي أشبه من ناحية الشكل والمضمون ببعض القصص اليونانية التي كانت تجمع بين الشكل القصصي الروائي، والفكر الفلسفي التعليمي»

الجانب الأدبي من القصة ليس، في رأيي، مهما بقدر أهمية الجانب الفلسفي منها، نقول ذلك على الرغم من أصالة وطرافة أسلوبها الأدبي. ذلك أن الدراسات والتحليلات التي تناولتها ركزت في غالبها على جانبها التوروي الذي سكب فيه ابن طفيل مقاصده الأساسية من نسج القصة.

ثمة مقاصد عقائدية وتشريعية وفلسفية من القصة، منها «التوفيق بين العقل والنقل، أو بين الشريعة والحكمة». وهو موضوع قديم، طالما شغل اهتمام الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، ولا يزال يلقي بظلاله على الثقافة العربية الإسلامية حتى اليوم.

شخوص القصة كانوا أربعة: (حي، والظبية التي أرضعته وربته، وأبسال، وسلامان). أما بطل القصة فهو(حي)، وهو يرمز إلى العقل الإنسان في سعيه باحثا ومنقبا عن الحقيقة حتى يجدها في النهاية، حتى وإن لم يقده في سعيه نص مسموع أو مقروء. وقد يتقاطع هذا الغرض مع المبدأ الاعتزالي المشهور «العقل قبل ورود الشرع». وهو المبدأ الذي قالوا به انطلاقا من نظريتهم المشهورة في التحسين والتقبيح العقليين، والتي تعني قدرة العقل على التمييز بين الحسن والقبيح، والخير والشر، والنافع والضار تمييزاً ذاتياً مستقلاً، مما يمنح العقل استقلالاً ذاتياً، مقابل التيار النقلي، الذي لا يرى للعقل أي دور في التشريع.

دور شخصية البطل (حي بن يقظان) يتمحور حول آليات العقل الإنساني في سعيه نحو الحقيقة، وأن بإمكان هذا العقل أن يتوصل إلى الحقائق، بما فيها الحقائق الأنطولوجية والدينية، بتأملاته وتفكيره. فـ(حي) الذي وجد نفسه في جزيرة نائية مع الحيوانات منذ أن وُلِد، يشب ويترعرع ويبدأ بملاحظة الكون والعالم من حوله. ومن ضمن ما لاحظه أنه لما ماتت أمه الظبية لم يعرف ماذا يفعل بها حتى رأى غرابين يقتتلان، فيصرع أحدهما الآخر، ثم قام الغراب الحي بدفن الغراب الميت، ففعل في أمه مثلما فعل الغراب. وبقي زمنا يطوف في الجزيرة ويلاحظ ويتفحص كل ما حوله.

بدأت أولى ملاحظاته حول المسألة الأنطولوجية بالتفكير حول علاقة العلة بالمعلول، فهداه عقله إلى ضرورة وجود محدث للعالم (هنا: نتذكر مسألة قدم وحدوث العالم) التي شغلت الفلاسفة والمتكلمين وحتى الفقهاء ردحا من الزمن. ثم فكر في نفسه جيدا فرأى أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه، وأن وراء هذه الذات المتجسمة روحاً، هي الباقية والشريفة منه. وفكر في خالق الكون ومبدعه فعلم أن كمال ذاته إنما يحصل بمشاهدة ذلك الموجود الدائم واجب الوجود (نتذكر هنا: المقولة الفلسفية: واجب الوجود، التي شكلت إحدى مرتكزات فلسفة ابن سينا).

وبعد أن فكر مليا هكذا في الوجود، عاد بتفكيره إلى العالم المحسوس ورحل إلى جزيرة مجاورة يسكنها قوم (سلامان) الذين يتبعون ظواهر النصوص التي وصلتهم من الأنبياء، ويأبون تأويلها، فحاول هو وصديقه (أبسال) أن يهدياهم إلى تأويل ظواهر النصوص، إلا أنهما واجها مقاومة شديدة، فرأيا أن من الأسلم ترك الناس على ما تعودوا عليه من الاهتداء بالظاهر (هنا: نتذكر مسألة ظاهر وباطن الشريعة، التي شغلت حيزا ضخما من مجادلات الفلاسفة والمتصوفة).

ولا تتسع مساحة المقال لاستعراض كل ما جاء في تلك القصة الجميلة من توريات فلسفية، كانت هي الهدف الأساس من تأليف ابن طفيل لها. وكم نفتقد في عصرنا الثقافي العربي الراهن إلى مثل هذا اللون الأدبي الرائع الذي يدبج رواية أو قصة أدبية، ويُضَمِّنها باستخدام أسلوب التعمية والتورية والترميز مقاصد وأغراضا فلسفية أو دينية أو اجتماعية.