عبدالوهاب بدرخان

البحث في «حماية» الفلسطينيين ممنوع، إذاً فالاعتداء الإسرائيلي عليهم مشروع... هذا هو المنطق/ اللامنطق السقيم السائد طالما أن هناك سلطة احتلال إسرائيلي وشعبا فلسطينيا واقعا تحت الاحتلال. ولأن الحماية ممنوعة فإن كل ما عداها ممكن: إدانة الانتهاكات واستخدام العنف المفرط، خفض التصعيد وتخفيف التوتّر، وأي مسكّنات وإجراءات موقّتة لتمرير مرحلة إثر مرحلة.

والهدف، كما رسمته إسرائيل وتبنّته الإدارات الأمريكية، هو كيّ وعي الفلسطينيين وتعويدهم على واقع يتقبّلون فيه الاحتلال والاضطهاد اليومي والتحكّم بحياتهم وبمقدّساتهم حاضراً ومستقبلاً. على خلفية المواجهات في القدس توصّلت مداولات مغلقة في مجلس الأمن إلى بيان مغرق في الإبهام والعمومية، يدعو إلى «وقف العنف» (مَن يرتكبه؟) و«تجنّب وقوع مزيد من الضحايا المدنيين» (ما هويتهم؟) و«وجوب احترام الوضع الراهن للأماكن المقدّسة» (أي أماكن ولأي ديانة تعود ومّن يريد تغيير وضعها؟).

لولا إشارة البيان إلى أن النقاش خصّص للوضع المتدهور في القدس لأمكن الاعتقاد بأنه يتعلّق بأوكرانيا أو أي بلد آخر. فالمجلس ينعقد لكنه معطّلٌ وبلا فاعلية، ولم يعد انقسامه يترك مجالاً حتى للإدانة اللفظية سواء كانت الجهة المعتدية إسرائيل أو روسيا.

لحسن الحظ أن إدانة إسرائيل لا تزال متاحة في الاجتماعات العربية، وإنْ بفاعلية معطّلة أيضاً، ولذلك فإن اللقاء الوزاري الطارئ في عمّان كان واضحاً في تحديد أن الأمر يتعلّق بالمسجد الأقصى والاعتداء على المصلّين، وأن الانتهاكات الإسرائيلية ترمي إلى تغيير الوضع التاريخي والقانوني للمسجد. غداة هذا اللقاء أضاف الإسرائيليون إلى سجلّهم الأسود التعرّض للمصلّين المسيحيين وعدم احترام حرمة كنيسة القيامة.

ما لا يستطيعه مجلس الأمن ولا إعلاء الصوت عربياً يمكن أن يعالجه وفد من موظّفي الخارجية الأمريكية حمل إلى زمرة المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية تذمّراً من «مشاهد» العنف والفوضى في المسجد الأقصى، ومن عربدة المستوطنين (بحماية شرطة الاحتلال) واعتداءاتهم على الفلسطينيين. كانت حجة وزير الخارجية («المعتدل»!) يائير لبيد أن إسرائيل تواجه محاولة من حركة «حماس» وحلفائها للسيطرة على المسجد، أما كذبة لبيد فهي أن إسرائيل «تحافظ» على «الستاتيكو» في الحرم القدسي ولا تمسّ بوصاية الأردن على الأماكن الدينية في القدس. لكن دلالة التحية التي وجهها رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة إلى راشقي الحجارة على قوات «العدو الصهيوني»، كانت كافية لإنذار الإسرائيليين والأمريكيين بأن الوضع أخطر من أن يُعالج بتواطؤهم التقليدي، وأن الأردن لا يقبل محاولة التقسيم المكاني والزماني للأقصى باقتحامات المستوطنين، بل إنه يرفض ادّعاء الشرطة الإسرائيلية «حقّها» في فرض زيارات غير المسلمين للحرم القدسي لأن هذا «حق حصري لإدارة الأوقاف الإسلامية».

هناك فارق بين «الزيارات» والاقتحامات، بين احترام حق الوصول إلى دور العبادة والصلاة فيها بحريّة تامة وبين السماح للمستوطنين بالعبث والتدنيس، كذلك بين احترام المواسم والمناسبات الدينية (شهر رمضان والأعياد) وبين الاستفزازات المتعمدة وإقامة الحواجز وتشديد الإجراءات لصدّ المصلّين وتنفيرهم... لكن ممارسات «دولة المستوطنين»، كما باتت تُوصف في إسرائيل، ذهبت بعيداً حتى في تطبيق السياسة الحكومية منذ أيام بنيامين نتنياهو وحليفه نفتالي بينيت (ممثل المستوطنين)، والآن في ظل حكومة الأخير، ثمة اقتناع عام يعكسه الإعلام العبري بأن هذه السياسة ازدادت تطرفاً بعدما تلقّت دفعاً من اعتراف إدارة دونالد ترمب بـ «السيادة الإسرائيلية على القدس»، ومن وثيقة «صفقة القرن» التي تكرّس تلك «السيادة». لم تلغِ إدارة بايدن تلك «الصفقة» والتزاماتها ولم تعمل بموجبها ولا تمانع أن تستفيد إسرائيل منها، أما أن تستخدم القوة لتنفيذها وأن تعتبر القضية الفلسطينية بنداً مشطوباً من جدول أعمال المنطقة، فهذه مسألة أخرى.

بعد مواجهات مايو 2021 خلال شهر الصوم أيضاً حاولت واشنطن، بطرق التفافية عبر مصر وأطراف أوروبية، إعادة إطلاق مفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل، ولم تستجب الأخيرة.

لذلك اكتفى وفد الخارجية هذه المرّة بفرض إجراءات «تخفيف التوتّر» على الجانب الإسرائيلي. كان بيان مجلس الأمن، على رغم عقمه، نصّ على أن «تدهور الوضع الأمني يضيء على الحاجة إلى استعادة الأفق السياسي لعملية سلام موثوق بها»، مكرّراً دعوة دأبت القاهرة على تكرارها طوال الأعوام الماضية.

لكن زمرة المتطرفين في حكومة بينيت، كما في الحكومة السابقة، ترفض سماع أي شيء يتعلق بمفاوضات سلام أو حتى تسوية. ولتمرير مرحلة الضغوط الراهنة كان عليها أن ترضخ للاقتراحات الأمريكية، كمنع المستوطنين من دخول المسجد الأقصى طوال العشر الأواخر من شهر رمضان، ومنع رجل الدين المتطرّف ايتمار بن غفير من دخول الحرم القدسي أو نقل مكتبه المتحرّك إلى باب العامود، وتخفيف القيود على المصلين والإفراج عن الذين اعتقلوا في باحات الحرم...

يعلم الجميع أن خطوات التراجع الإسرائيلية هذه تبقى آنية، بغية إظهار «مساهمة إيجابية» في التهدئة واستيعاب التدهور، وطالما أن الوفد الأمريكي غير مخوّل البحث في «الأفق السياسي» فإن مرحلة أخرى ستبدأ بعد عيد الفطر وسيعاود المستوطنون اقتحاماتهم ليتجدد التصعيد، فالفلسطينيون لن يقبلوا تغيير أوضاع مقدساتهم وبات الأقصى محور قضيتهم وكفاحهم لإنهاء الاحتلال.

بالنسبة إلى إسرائيل المسألة أبعد من مجرد تدهور أمني أو استجابة لاستئناف التفاوض، إنها مسألة «سيادة» على الأماكن الدينية، فالحرم القدسي يقع في المنطقة التي ضمّتها ولم يحظَ هذا الضمّ سوى باعتراف ترمب. وإذ تبني إسرائيل وضعاً احتلالياً دائماً فإنها تريد فرضه على الفلسطينيين وتوظيف علاقاتها التطبيعية المستجدّة لا لإقامة «سلام» بل لترتيب بيئة مصالح إقليمية تضغط على الفلسطينيين لقبول ما يُفرض عليهم.

كتب أحد المعلّقين الإسرائيليين: «من دون الحرم/ جبل الهيكل لا تستطيع إسرائيل أن تكون دولة يهودية»، ويضيف أن «لا جدوى من اعتبار الدولة يهودية إذا وافقت على تقاسم المكان الأكثر قداسة لمؤمنيها مع المسلمين، وليس فقط تقاسمه بل التنازل والانسحاب مما هو حق لها منذ الأزل ومكتوبٌ على اسمها في سفر الأسفار».

لذلك فإن الاعتماد على المستوطنين المتطرفين كميليشيات موازية للجيش والشرطة لا يشكّل «مفاعلاً دينياً» فحسب، بل إنه يعكس رسالة تهديد دائم إلى الأردن والفلسطينيين بأن إسرائيل لا تعترف بأي حصانة للمقدسات ولا بوصاية عليها، وبالتالي فهي تنقض التزاماتها بموجب معاهدة وادي عربة وتريد تعديلها لتثبيت تلك «السيادة».

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي» .