هادي اليامي

وسط اهتمام محلي ودولي متعاظم، انطلقت أمس الثلاثاء أعمال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، تحت رعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مما أعطاها زخمًا كبيرًا وجعلها محور حديث كثير من المهتمين ومحط أنظار وسائل الإعلام التي تبارت في تغطية فعالياتها.

بدءًا وقبل الحديث عن تفاصيل الحدث ينبغي الإشارة إلى المستوى العالي من التحضير والإعداد المبكر الذي لم يترك شيئًا للصدفة، وهو السمة التي أصبحت ملازمة للكثير من الفعاليات والأحداث التي شهدتها بلادنا خلال الفترة الماضية، وأصبحت كلمة السر التي يعزى إليها النجاح الكبير الذي تصيبه تلك الفعاليات، ومما يزيد من مشاعر الفخر أن ذلك التنظيم المتميز يتم بأيادي سعودية شابة اكتسبت خبرة واسعة في هذا المجال، وأصبحت قادرة على منافسة كبريات الشركات العالمية المتخصصة.

ويحظى مجال الذكاء الاصطناعي باهتمام متعاظم في ظل توجه المملكة نحو التحول الرقمي الكامل، لا سيما بعد إقرار رؤية 2030 التي أولته اهتمامًا كبيرًا، فقطعت شوطًا كبيرًا لتسخيرها في العديد من جوانب الحياة، فهي موجودة داخل معظم الوزارات والإدارات الحكومية، بل إن هناك مدنا ذكية بالكامل يجري العمل على إنشائها مثل ما نشاهد في نيوم.

لم تكن المنظومة العدلية بعيدة عن كل هذا، وبادرت وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء إلى تبني تلك الوسائل لتحقيق العدالة وضمان الحقوق، وفي هذا العهد الزاهر الذي نعيشه تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وعضيده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – فإن المنظومة التشريعية والقانونية شهدت طفرات هائلة انعكست على ترقية الأداء في هذا المرفق المهم الذي يمس حياة الناس بصورة مباشرة ويتعلق بحقوقهم ومكتسباتهم.

لم تقتصر تلك النهضة القانونية على مجرد تطوير القوانين واستكمالها، بل تعدت ذلك وشملت استخدام وسائل الذكاء الاصطناعي لإكمال الجهد البشري، وهو ما يظهر بوضوح في المحكمة الافتراضية التي تم تدشينها خلال الفترة الماضية، وهي حدث بالغ الأهمية، لأنها وضعت حلولًا جذرية لمحاولات المماطلة والتسويف وإهدار وقت المتقاضين، فالإجراءات تتم بصورة مؤتمتة بالكامل، وتختصر الوقت والجهد دون الحاجة إلى إضاعة الوقت في التنقل بين المكاتب واللهث وراء الإجراءات، وتسخّر التقنيات الحديثة لخدمة الإنسان، وتضمن تحقيق العدالة وسرعة إيصال الحقوق لأصحابها.

من المبادرات المتميزة الأخرى التي استعانت فيها المنظومة القضائية بأدوات الذكاء الاصطناعي تبرز مبادرة التقاضي الإلكتروني التي أتاحت استخدام وسائل التقنية الحديثة للفصل في الدعاوى، منذ مرحلة رفع عريضة الدعوى، مرورًا بالترافع وحتى مرحلة صدور الحكم وتنفيذه، وهو ما كان بمثابة نقلة نوعية في طريق التحول الرقمي الذي تسعى إليه الدولة في جميع أجهزتها ومؤسساتها، تنفيذًا لمتطلبات الحكومة الرقمية واللحاق بركب العصر ومسايرة التطور والحد من حالة التكدس والازدحام داخل المحاكم.

وتتعدد إنجازات المنظومة القضائية في تسخير مخرجات الذكاء الاصطناعي، لتشمل الأرشيف الإلكتروني، والتوثيق وكتابة العدل، وبوابة ناجز، كما تلعب تلك الأدوات دورًا كبيرًا في إبراز حالات التستر التجاري وكشف المتورطين في جرائم الفساد المالي والإداري، بل إن وزارة العدل التي تسابق الزمن لأجل إكمال عملية التطوير والتحديث تمتلك مبادرة متكاملة، هي منظومة العدالة الرقمية التي تشتمل على تطوير الأعمال بشكل مرن يسمح باستضافة الخدمات العدلية في بيئة سحابية آمنة وموثوقة، وتقنيات متطورة وحديثة تضمن توفر الخدمات العدلية للمستفيدين على مدار الساعة بشكل كامل وبجودة تقنية عالية لجميع مسارات العمل الرئيسية.

أما عن الحدث البارز الذي تشهده بلادنا هذه الأيام وهو القمة العالمية للذكاء الاصطناعي فإنها تؤكد بوضوح أن المملكة تسير بثبات في طريقها لتنفيذ مستهدفات 2030، فقد تم توفير جميع معينات النجاح في ظل الاهتمام الكبير الذي تبذله الجهات المختصة، فالمشاركة الواسعة التي شملت حوالي 120 متخصصًا عالميًا تسابقوا في تقديم خلاصة تجاربهم وعصارة خبراتهم للحضور، إضافة إلى وجود معظم الشركات التقنية الرائدة في هذا المجال تشير إلى أن السعودية تعمل بقوة على حجز مكانتها على الخارطة العالمية.

كذلك فإن اختيار شعار القمة الحالية (الذكاء الاصطناعي لخدمة البشرية) كان في غاية الذكاء، لأنه يسهم في تبديد المفاهيم الخاطئة التي ظلت عالقة في أذهان البعض بأن هذه الأدوات سوف تؤدي إلى زيادة البطالة وإلغاء مئات الآلاف من الوظائف، وهو تصور قاصر لا يمت إلى الواقع بأي صلة، فتلك الوسائل تهدف لإسعاد البشر وتيسير حياتهم، فالآلة مهما بلغ شأنها فهي في النهاية منجز بشري ولا تستطيع العمل والإنجاز دون إشراف الإنسان وإدارته وتوجيهه.

أيضًا لفت نظري في اليوم الأول من أعمال القمة أنها لم تركز على الجوانب النظرية فقط، فقد كان الاهتمام واضحًا بشدة في التركيز على الجوانب العملية والتطبيقية، وهو ما ظهر جليا في استعراض عدد من حالات استخدام الذكاء الاصطناعي من جهات ابتكارية محلية وعالمية، إضافة إلى حلقات النقاش والورش المصاحبة للفعاليات التي أحدثت قدرًا كبيرًا من التفاعل الحي مع الجمهور.

هذا الطريق الواضح الذي تسير عليه بلادنا بوتيرة ثابتة سيوصلها حتمًا إلى مراقي التطور التي تنشدها، ويحقق الأهداف التي وضعتها قيادتها الرشيدة، بنما ينعكس على شعبها خيرًا وفيرًا وتطورًا ونهضة، ويكسب أجيالها المقبلة معارف واسعة وتأهيلًا عاليا ما دامت كل عناصر النجاح قد تكاملت، والإرادة القوية قد توفرت وامتزجت خبرة الشيوخ وحكمتهم بعزيمة الشباب وطموحاتهم وسواعدهم الفتية، لتتبوأ بلادنا المكانة التي تستحقها والتي هي أهل لها.