عبدالقدوس الأنصاري

جاء في كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» لأبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء الشامي المقدسي المعروف بالبشاري أن «جدة مدينة على البحر». وجاء في «معجم ما استعجم» أن جدة ساحل مكة معروفة سميت بذلك لأنها حاضرة البحر، والجدة من البحر والنهر ما ولي البحر، وأنها تحد جزيرة العرب غرباً. وجاء في تاريخ «المستبصر» جمال الدين أبي الفتح يوسف بن يعقوب بن محمد المعروف بابن المجاور الشيباني الدمشقي، أن «جدة بنيت على البحر». وقد رسم هذا المؤلف خريطة ساذجة لجدة ضمن كتابه وجعلها بشكل مستدير، وقد وضع الناحية الغربية من المدينة في المكان الذي توضع فيه الناحية الشمالية بالنسبة للخرائط الحديثة. كما وضع الناحية الشرقية منها في المكان الذي تكون فيه حديثاً بناحية الجنوب، والناحية الشمالية في موضع ناحية الشرق، والجنوبية في مكان الغربية.. بالنسبة للخرائط المصرية.

وبعد هذا التعريف الوجيز بخريطة ابن المجاور نقول: إننا لم نعثر على خريطة خاصة بمدينة جدة مثلها وفي تاريخ وضعها أو أقدم منها، وهي وإن لم تكن فيها المعالم الكافية للمدينة في عهد المؤلف إلا أنها بحسبها أن أعطتنا صورة تقريبية لوضع جدة إبان رسم المؤلف لها في القرن الهجري السابع.

وتري جدة فيها لاصقة بالبحر كما هي الحال الآن، ومساحتها محدودة غير ممدودة في الأرض الفيحاء التي تقع في مكانها، وقد لاحظنا أن المؤلف عني بإثبات أمرين أحدهما: القبر المزعوم أنه لحواء أم البشر، والمؤلف يعتقد أنه حقيقي، ويبدو من منظر الرسم أنه كان خارج البلد يومئذ، بعيداً عن العمران، بعضي الشيء مما يفهمنا مقدار ضآلة حجم المدينة وقتها، والأمر الثاني الذي عني به راسم الخريطة الأثرية هو هذه السبخة التي تقع بين البحر والجبال، وقد سماها باسم «منية الحديبية» وهذا الاسم غريب عن أماكن الحجاز ويبدو أنه وفد إلى هذا المكان من القطر المصري، لأن المنية، بكسر الميم وسكون النون بعدها ياء مثناة مفتوحة فهذه تأنيث، هي من أسماء الأماكن بمصر خاصة، ومنها «منية أبي الخصيب» وغيرها، على أن هذه التسمية قد اندثرت فيما يبدو.

وجاء أحمد بن علي الفزاري القلقشندي القول سنة 821هـ، فوصف لنا في كتابه «صبح الأعشى» جدة، وعدها من قرى مكة قال: وجدة بضم الجيم وتشديد الدال المهملة ثم هاء، وهي فرضة مكة على ساحل بحر القلزم «البحر الأحمر» وموقعها في أول الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة، وهي في الغرب عن مكة بميلة إلى الشمال، وهي ميناء عظيم، عمل حط وإقلاع، وإليها تنتهي المراكب من مصر واليمن وغيرهما، ومنها تصدر. قال في تقويم البلدان: وعي من مكة على مرحلتين، وقال الإدريسي: بينهما أربعون ميلاً وهي ميقات من قطع البحر من جهة عيذاب إليها.

ويقول بوركهارت: وإن جدة تقسم إلى قسمين جزء عال من الأرض وجزء واطئ. ويبلغ طول هذه المساحة 515000 متر، والعرض أقل من ذلك، وهي محاطة بسور كبير في حالة سيئة، يحتاج إلى إصلاح وهو غير قوي، وقد بناه السلطان قانصوه الغوري سنة 917هـ ضد البرتغال، وفيه بين كل 50 ياردة مدفع صدئ على برج.

وفي، دائرة المعارف، لبطرس البستاني، إنها بلدة من الحجاز في بلاد العرب على البحر الأحمر على بعد 56 كيلومتراً من مكة، وفي عرض 28 و21 شمالا وطول 13 و39 شرقاً، وقال: إنها مبنية على حافة البحر في صحراء مجدبة، وعلى بعد نحو عشرة أميال منها إلى الوراء سلسلة تلال منخفضة خالية من الشجر والنبات، ويحيط بها أسوار تتخللها أبراج حصينة وخندق ولها تسعة أبواب، ستة منها إلى جهة البحر، والبحر هناك أخذ في الابتعاد بالتدريج عن المدينة، وذلك من جراء الصخور المتولدة هناك.

ونرى أن في قول البستاني: إن المسافة بين جدة ومكة هي 56 كيلومتراً، شيئاً من عدم التمحيص، فقد ثبت أخيراً أن المسافة بينها هي 75 كيلومتراً، كما أن في قوله بإحاطة خنق بها، دقة في الوصف، وهو أمر مشاهد ومعروف، وقد سبق البستاني إلى ذكر الخندق، ابن المجاور الدمشقي الذي أورد أنه حينها بناها الفرس حفروا حولها خندقاً من وراء سورها إمعاناً في الحيطة، وبذلك أعاد التاريخ نفسه.. إلا أن الخندق الذي ذكره ابن المجاور كان مملوءاً بماء البحر، والخندق الأخير كان يابساً ليس به ماء. وقد كان هذا الخندق باباً ومن وراء السور يقصد زيادة الدفاع عن البلدة في أوائل القرن الهجري الـ13 من الأعداء والسيول. وقد أدرك المعاصرون هذا الخندق اليابس.

وقالت دائرة المعارف البريطانية: وجدة مدينة في الجزيرة العربية على شاطئ البحر الأحمر بين خطي 12 و28 شمالا و39 و20 شرقا، وأهميتها ترجع إلى أنها مرسى مناسب لاستقبال الحجاج إلى مكة التي تبعد حوالي 46 ميلا.. وهي تقع في سهل رملي منخفض خلفه سلسلة من التلال طولها 10 أميال إلى الشرق، ووراء تلك التلال جبال عالية، وتمتد المدينة على طول الساحل، حوالي ميل، وهي محاطة بسور له أبراج عند المداخل والزوايا في اتجاه البحر، تعضدها طابيتان في الشمال من السجن والمباني العامة، ولها 3 أبواب: باب المدينة شمالا، وباب مكة شرقاً، وباب اليمن جنوباً. كما توجد 3 منافذ على الجانب الغربي ويؤدي أوسطها إلى الميناء، وأمام باب مكة ضاحية للنزهة بها دكاكين ومقاه وسوق مزاد علني، ويوجد قبل باب المدينة ثكنات عسكرية، وخلفها (قبر أمنا حواء) وهو محاط بجبانة خاصة، وأحسن جزء في المدينة هو جهة البحر، والمباني مرتفعة ومبنية بناء متقناً من الأحجار المرجانية الخشنة التي تظهر على طول الشاطئ، والشوارع ضيقة ومنحنية، كما يوجد مسجدان في حجم كبير، وعدد آخر أصغر حجماً. والضواحي الخارجية مجموعات أكواخ مصنوعة من جذوع النخل وسعفه ليس غير، وتمون الأسواق بالمواد الغذائية المجلوبة من طريق البحر، وبالفواكه والخضروات من الطائف ووادي فاطمة.

أما تموين الماء فمحدود وهو ملح، ويوجد مع تلك بئران حلوتان ونبع يبعد 7 أميال ونصف الميل من المدينة. ومعظم البيوت بها صهارج لتخزين مياه المطر. والطقس حار ورطب.

وفي دائرة المعارف الإسلامية: - الترجمة العربية بمصر- أن جدة فرضة على البحر الأحمر وتحيط بها صحراء. وفي (مرآة الحرمين) لإبراهيم رفعت باشا: أنها بلدة كبيرة وميناء مكة العظيمة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، ويحيط بها سور ذو خمسة أضلاع، يقطعها راكب الحصان بالسير المعتاد في 45 قيقة، وارتفاع السور 4 أمتار وبه 9 أبواب: 6 في الجهة البحرية و3 في الجهات الأخرى، وأول من بناه السلطان الغوري، وبها حوالي (3300) منزل مبنية بالحجر الأبيض المستخرج من البحر، ويتكون النزل من طبقتين إلى خمس.

وصف لنا لورانس في كتابه: (الثورة العربية) جدة بأنها مدينة غريبة حقا، شوارعها أزقة ضيقة وسوقها مسقفة بالخشب وبيوتها مبنية من 4 طبقات أو 5 من الصخور المرجانية، وقال: إنه لم ير بها زجاجاً ولم يصادف عجلة في طريقه، لأن الشوارع ضيقة لا تستطيع العجلات أن تمر بها، ولم يسمع جلبة أينما سار، بل كان كل شيء صامتا». ولذا علمنا أن لورانس إنما قدم جدة خلال الحرب العالية الأولى، وفي ذروة شبوبها سنة 1916، أدركنا أن له بعض الحق فيما رواه من الصمت السائد في جدة، أما قوله إنه لم ير زجاجاً ولا عجلة في طريق فيبدو أنه سلك طريقاً عاماً في وقت لا تسير فيه العجلات، مثل «العربات الكارو» وأية عربات في وقت الحرب؟ وماذا تحمل؟ أما الزجاج الموجود في بيوت جدة القديمة في عهده ومن قبله ولا يزال.

1977*

*مؤرخ وكاتب سعودي «1906 - 1983»