عبدالله فدعق

ليست كل الأوجاع تُرى، ولا كل الأعراض تُقاس، وهناك تعب لا يُظهره الوجه، لكنه يستقر في الجسد كله، ويتوزع بين العضلات، ويخيم على الأنفاس، حتى إنه لا يسمح لصاحبه بالنوم، والمتوجعون، وبسبب أنهم لا يجدون وقتًا للتراجع والانكسار والتنازل، تنهار أجسادهم نيابة عنهم، وبعض الأجساد تتكلم كثيرًا، وبعضها تشتكي بصوتٍ خافت من صداع لا سبب له، وإرهاق لا يُشفى بالراحة، وذهنٍ ضبابيّ لا يعرف كيف يلتقط خيوط الحديث، أو يتذكر ما قيل قبل دقائق؛ مع حالة من الانطفاء البطيء، وكأن أجسادهم تنسحب من الحياة بالتدريج، دون أدنى ضجيج.

المشكلة في ما تقدم، لا تكمن في الألم فقط، بل في عدم تصديقه من قبل الآخرين، خاصة وأن من لا تبدو عليه علامات التعب يُتّهم بالمبالغة، ومن يعتذر كثيرًا يُوصف بالحساسية، ومن ينسحب بهدوء يُظن أنه تغيّر، وللأسف، لا يعلم كثيرون أن بعض الأجساد تُنهكها كثرة التحمل، وبعض العقول تتعبها الفوضى الداخلية، وهناك من يستهلك طاقته كلها فقط ليبدو طبيعيًا، ومن يخوض معركةً صامتة كل صباح ليقنع نفسه أنه بخير؛ وهنا يجيء السؤال: كم من الناس يعيشون في أجساد لا تُشبههم؟ وكم منهم يحتاجون إلى استراحة داخلية، لا إلى ملهيات خارجية؟

الحقيقة أننا في حاجة إلى إعادة تعريف «الإنهاك»، لا بوصفه نتيجة جهد بدني، بل بوصفه تراكمًا لصراعات مؤجلة، وأحمالاً لم نجد من نتشارك معه لتجاوزها، لا سيما أن آلام الناس ليست كلها آلام عضلات أو عظام؛ فبعضها رواسب شعور، وبعضها تعبير خافت عن صدمات لم تجد منفذًا، وبعض الأجساد لا تشتكي لأن أصحابها ضعفاء، وخلف أرواحهم صمت طويل، وقصة تعب تحتاج إلى من يُصدقها دون شرط، لأنه لا أحد يشعر كما تشعر هي، ولا أحد سينهض إن لم تبدأ هي بخطوتها الأولى؛ وباب التعافي، مما سبق ذكره، مفتوح، ومن ذلك: ألا يعود الإنسان كما كان، بل أن يقبل ما تغيّر فيه، ويعيد ترتيب أيامه على ضوء ذلك التغير، ويطلب المساعدة حين يحتاج، ويخفف عن نفسه حمل التوقعات الثقيلة، ويحتفي بكل تحسن، مهما بدا بسيطًا، ويمتنع من أن يتخذ من الإنهاك شماعة يعلّق عليها كل تقاعس، أو أن يختبئ خلف ستار الألم ليفرّ من مسؤولياته.

أختم بأن الاعتراف بالتعب وطلب الراحة حق، لكن القيام بالواجب– ولو بالحد الأدنى– فرض لا يسقط بمجرّد الشكوى، والذي يُرهقه الداخل، يحتاج إلى أن يمسك بيديه أولًا، ويُراجع أعذاره بصدق، قبل أن ينتظر من يُنصت إليه، وأن يهتم بالعلاج السلوكي المعرفي، الذي يهدف إلى تغيير الطريقة التي فكر بها في الألم، وأن يحدد المواقف والظروف المُزعجة في حياته، ويتدرب على الحديث مع جسده، من أجل تعديل التفكير السلبي أو الخطأ، وأن يهتم بممارسة التمارين الرياضية بانتظام، والبداية بمستوى منخفض، ثم يزيده تدريجيًا مع مرور الوقت، ولا أقل من الأنشطة الهوائية المنخفضة التأثير، كالمشي، وركوب الدراجة، والسباحة، والتمارين المائية، فضلًا عن الأنشطة التي تشغل العقل والجسم؛ فأجسادنا تتحدث إلينا، وتعطينا إشارات وعلامات، وتريد منا أن نتحدث معها، وخلاصة ما تريده منا هو: خلق بيئة نوم مريحة، وأن نخلد إلى النوم ونستيقظ في الوقت نفسه، وأن نجعل غرفة النوم– وبالتحديد سرير النوم– للنوم، وليس للاتصال والمراسلات، وأن نُخفف من المنشّطات والمنبّهات، وأن نتأمل ونتفكّر في هذا الكون الفسيح من حولنا، ونُكرر القول لأنفسنا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}.