ناصر الدين الأسد

استشهدنا بأمثلة من مصادر متعددة متنوعة الميادين، ومن عصور مختلفة، والنصوص في هذا أكثر من أن يجمعها حصر، وما أوردناه منها يغني عن الاستقصاء والتتبع، وهي كلها على هذا المنوال:

الأعرابي فيها بدوي والبدوي أعرابي، والصحراء بادية والبادية صحراء، وهما معًا أحيانًا بمعنى البرية والفضاء، وأحيانًا بمعنى الرمال خاصة.

ويفهم من هذا في جملته، أن كل ما ليس بمدينة أو قرية فهو بادية أو صحراء، تمشيا مع الدلالة اللغوية المحض لـ «بدا» و(أصحر)، وآن كل من لم يكن سكن المدينة أو القرية مستقرًا فيها فهو بدوي أو أعرابي مهما يكن بعده عنها ومهما تختلف بيئته وأحوال معيشته مهما يكن بعده عنها، ومهما تختلف بيئته وأحوال معاشه وحياته الاجتماعية. ولم تكن القرية تدل على ما تدل عليه اليوم من قلة السكان أو صغر الحجم أو اقتصار أهلها على مزاولة الزراعة، تمييزًا لها من المدينة فقد كانتا في الجاهلية وصدر الإسلام بمعنى واحد، فيما يظهر من بعض النصوص.

ويبدو أن هذا الفهم العام للأعراب قد استقر في صدر الإسلام، حتى أصبح المجتمع حينذاك يقسم لخمس فئات، هي: المهاجرون، والأنصار، وآهل الأمصار، والأعراب، وأهل الذمة. ويتضح ذلك فيما روي من وصية عمر - رضي اللّٰه عنه - حين قال: «أوصي الخليفة من بعدي بتقوى اللّه، وأوصيه بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم وكرامتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل أن يقبل من محسنهم وأن يتجاور عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار، فإنهم رِدْ الإسلام وغَيْظ العدو، وجباة المال، ألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضى منهم، وأوصيه بالأعراب، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن ياخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة لله وذمة رسول اللّٰه - صلى اللّه عليه وسلم - أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم».

وظهرت الأعراب - من حيث هي فئة قائمة بنفسها - في بعض الأحاديث النبوية وفيما ترتب عليها من أحكام في الهجرة والجهاد وقبول الهدية بل أصبحت الأعرابية نبزا يدل على صفات في الخلق والسلوك، وإن كان الموصوفون بها من سكان المدن. فقد روي عن أنس، أن أبا موسى الأشعري بعثه إلى عمر، فقال له عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقال أنسٍ: تركته يعلم الناس القرآن. فقال عمر: أما إنه كيس ولا تسمعها إياه. ثم قال له: كيف تركت الأعراب؟ فقال أنس: الأشعريين ؟ قال عمر: لا بل أهل البصرة. قال أنس: أما إنهم لو سمعوا هذا لشق عليهم. وقد ذكروا أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي، فرح بذلك وهش له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي، غضب له.

1976*

* كاتب وباحث أردني «1922 - 2015».