خالد العضاض

هذا هو الجزء الـ(11) من مقالات (قصة أخطر رجل في الجماعة الإرهابية)، وهي سلسلة عن المسيرة التنظيمية للعراقي «محمد أحمد الراشد»، والحديث في هذا الجزء مستمر عن الفتنة الصحوية في أزمة احتلال الكويت، وأنوه إلى أن الصحيح في تاريخ بيان هيئة كبار العلماء حول تأييد إجراء الدولة إبَّان الأزمة هو: (الإثنين 13 أغسطس 1990).

وإكمالًا لما سبق، فإنه بعد درس سفر الحوالي، قفز اسم سلمان العودة إلى واجهة الأحداث، حينما ألقى في بريدة، في اليوم الـ27 للأزمة (الأحد 26 أغسطس): درسًا بعنوان: (أسباب سقوط الدول)، جاء فيه أن: الدهر دول، والأيام قُلَّب، ولو بقي الملك في أيدي السابقين لَمَا وصل إلى اللاحقين، وأن كل شيء في هذه الدنيا لا يبقى وسيخلفه غيره، وهكذا شأن الدول، وقد يطول عمر الدولة وقد يقصر، لكن النهاية محتومة. ثم تكلم عن زوال الملة، وزوال الدولة، وأن الأول هو الخطير، وأن الثاني قد يحدث، فيبقى الإسلام حاكمًا مهيمنًا، لكن تغيرت الأسماء، وتغير نمط الحكم (ولا ضير في ذلك كما هو مفهوم كلامه). ثم تحدث عن مجموعة من أسباب سقوط الدول، في إسقاطات غاية في التأليب على الدولة، وعلى الكويت وحكامها، وكان من أشنع ما قال وأكثره صراحة، قوله عن شرعية الكويت وحكامها: «مع الأسف كلمة الشرعية أصبحت لعبة، يقولون مع الشرعية في الكويت يعني عودة حكامها الذين أخرجوا منها، وفي الواقع: إننا لسنا متعبدين بالطاعة لآل الصباح، ولا لغيرهم، نحن صاحبنا الذي يرفع راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولو كان أعجميًا، أو كرديًا، والواقع أن حكومة الكويت ما كانت تحكم بالشريعة الإسلامية، وما كانت تحكم بما أنزل الله، بل كانت تحكم بالقوانين».

وفي اليوم الـ29 للأزمة (الخميس 30 أغسطس): ألقي سفر الحوالي درسًا في الرياض بعنوان: (ففروا إلى الله)، وهي توسيع لدرسه: (فستذكرون ما أقول لكم)، الذي ذكرنا ملخصه في المقال السابق، كما أن هذا الدرس -ففروا إلى الله- هو أصل الرسالة التي كتبها ردًا على بيان هيئة كبار العلماء المؤيد لجلب القوات الصديقة، والتي طبعت بعد ذلك بعدة أسماء منها: (وعد كيسنجر، الأهداف الأمريكية في الخليج)، وفي هذه الأيام نفسها -أواخر أغسطس- ألقى ناصر العمر في الرياض درسًا بعنوان: (تداعي الأمم)، والذي ذكر فيه: «أن هناك خطة دولية لوضع الشرق الأوسط تحت الهيمنة الأمريكية، ساعدها في ذلك انتصارها في الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، وأكد أن صدام وأمريكا كلاهما سعيا إلى السيطرة على الخليج العربي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أمريكا قمعت كل الجهود التي سعت إلى نهضة إسلامية في المنطقة».

لاحظوا أن كلام الحوالي والعودة والعمر، جرى والعدو يحشد جموعه على تخوم المناطق الحدودية للسعودية، ولا تعلم أي ساعة يقتحم فيها حدود الوطن في حرب لا يعلم مدى ضراوتها وضررها إلا الله، فإن لم تكن هذه خيانة للوطن، وتخذيل عن حمايته، وهدم للروح المعنوية للجبهة الداخلية، ونصرة للعدو الصائل، فماذا تكون؟!

على كلٍ، كانت أبرز المنطلقات التي تباطن عليها الإسلامويون لتأييد صدام في أزمة الكويت، هي: كون القوات الأمريكية جاءت لتحتل الخليج، والقضاء المبرم على الصحوة الإسلامية، ولوم الكويت على مشاكستها للعراق، وعدم حكمها بالشريعة، وتعزيز مطالبة صدام بخروج إسرائيل من فلسطين مقابل خروج العراق من الكويت.

وثمة أمر مهم يجب ألا يغيب عن مستندات التحليل وسبر النتائج في هذه الفتنة النكدة، وهو نوعية الخطاب الديني، وعناوين الدروس التي كان يحاضر بها الثلاثي الصحوي، مثيري فتنة القول بحرمة الاستعانة بالأجنبي؛ قبل بدء الأزمة، والذي انقلب رأسًا على عقب في هذه الفتنة، وما بعدها: فسفر الحوالي (عمره 40 سنة وقت الحدث): كان يشرح العقيدة الطحاوية في درس أسبوعي بدأه في سنة 1406، أما طرحه فيما يعرف بالدروس العامة فكان: حول مجموعة من الأحاديث التربوية الوعظية، على شاكلة: (التضرع إلى الله، والإيمان ونواقضه، والرجولة، والشباب بين العقل والعاطفة)، أما ناصر العمر (عمره 38 سنة وقت الحدث): فكان له درس أسبوعي في شرح منار السبيل في الفقه الحنبلي، بدأه في سنة 1407، أما طرحه في الدروس العامة فكان لا يختلف عن الحوالي في شيء، إذ كانت مواضيعه مثل: (النملة، ولتسكنوا إليها، وأصلح لي في ذريتي، والعلاج القرآني للمشكلات الأسرية)، وسلمان العودة (عمره 34 سنة وقت الحدث): كان درسه الأسبوعي في شرح بلوغ المرام والذي بدأه في سنة 1408، ودروسه العامة قبل الأزمة لا تختلف عن صاحبيه -كما يسميهما- مثل: (آداب الدعـاء، والأسماء والكنى والألقاب، واللسان ومنطق الصمت، والنكت والطرائف). فكانت هذه الفتنة وهذا النشاط قصير المدى إرهاصة لما بعد الأزمة، فقد استمر اللغط والسجال من اليوم (18) للأزمة الموافق ليوم الأحد (19 أغسطس 1990)، وحتى اليوم (169) الموافق ليوم الخميس (17 يناير 1991)، إذ انطلقت مع بواكيره عاصفة الصحراء بطلعات جوية مكثفة لطرد صدام من الكويت، وحينها صمت مثيرو الفتن لمدة ثمانية أشهر تقريبًا، ذكروا -بعد عقدين على انتهاء الأزمة- أنهم كانوا لا يريدون أن يحسبوا في خانة من يفت في عضد الوطن والقيادة والشعب، والحرب قائمة.

ثمة حديث عن أمر شفهي -ملطف-، بالتوقف عن المراهقات السياسية التي كان يمارسها هذا الثلاثي، والذين عادوا إلى نشاطهم بعد مضي سنة كاملة على الاجتياح، في أغسطس 1991، بإذن شفهي من وزارة الداخلية -من باب إتاحة الفرصة- بعد وساطة الشيخ ابن باز -رحمه الله-، وكانت عودتهم بأسلوب ووجه جديد مختلف تمامًا عن وجه «الرجولة» و«العلاج القرآني» و«النكت والطرائف»، فكان بمثابة تصعيد للنبرة الحادة في النقد المبني على سوء الظن والطوية، ومواصلةً لحربهم الخاصة ضد الوطن، ولكن هذه المرة بشكل معلن، وهنا كانت لحظة فاصلة عَبَرت بها «السرورية»، وتجاوزت طورها الجنيني «السلفي»، إلى الطور الإخواني المحسن والمطور، عبر جسر «فقه الواقع»، والذي بدأ عمليًا في أزمة الخليج كشكل جديد من الخطاب الديني الذي لم تشهد له السعودية مثيلًا (من سنة 1727، وحتى أغسطس 1990)، والذي قعَّد له «الإسلامويون الجدد» في السعودية، بل إن لناصر العمر درس ركيك بهذا العنوان، هو أول ما صافح به جمهوره الصحوي حينما استأنف نشاطه بعد الأزمة في (سبتمبر 1991)، وصار هذا الدرس مع ما كتبه قبله (الراشد، وسرور) أشبه بالنظرية لهذا الرافد النوعي الذي غير في أطوار حياة «التنظيم السروري» وتشكلاته، مع ملاحظة أنه وحتى تلك اللحظة لم تعرف السرورية بعدُ «بالسرورية»، وللحديث بقية.