من البداية والإنسان يروي حكايته عبر الضوء... كان الضوء أول مرآة للبشرية، يرسم الظلال على جدران الكهوف، ثم يجمع القبيلة حول الموقد لتبدأ الحكاية. جاء التلفزيون حاملاً ومكملاً لتلك الرحلة القديمة: حوّل الضوء إلى صورة، والصورة إلى سرد، والسرد إلى وعي مشترك. لا توجد وسيلة إعلامية أعادت تشكيل إدراك الإنسان كما فعل التلفزيون، دخل البشر عهداً جديداً من الإدراك: رؤية تتجاوز المكان، وتكسر إيقاع الزمن، وتحوّل الفرد إلى شاهد على التاريخ وهو جالس في بيته.
21 نوفمبر، اليوم العالمي للتلفزيون، مناسبةٌ للاحتفاء بتلك الوثبة في الوعي الإنساني. عام 1996، اجتمع قادة الإعلام في نيويورك في أول منتدى تلفزيوني عالمي، فأدركت الأمم المتحدة أن هذه الشاشة لم تعد أثاثاً منزلياً، بل وسيطاً عالمياً يعيد صياغة السياسة والدين والثقافة والذاكرة الجماعية.
قبل التلفزيون، كان الإنسان يعيش عزلته إلا ما كانت تراه عيناه، أو تسمعه أذناه، أو تتصفحه يداه. جاء التلفزيون فخلق عالماً موازياً لا يقل تأثيراً عن العالم الحقيقي، وربما تجاوزه في لحظات كثيرة: صورة تتحرك، وصوت يرافقها، وزمن يمكن التحكم في إيقاعه. للمرة الأولى في التاريخ، تجمّعت كل أدوات الحكاية في إطار واحد.
لم يعد التلفزيون ينقل الواقع؛ صار يعيد صياغته. يختار اللقطة، يحدد الزاوية، يقطع الزمن، يرتب المشاهد.
في 20 يوليو 1969، توقف العالم. عشرات الملايين جلسوا أمام شاشاتهم، يرون نيل أرمسترونغ يضع قدمه على سطح القمر –في تلك اللحظة بالذات، تقاسم البشر الدهشة نفسها، والصمت نفسه، وبريق العينين ذاته. لم يعد الحدث التاريخي يُروى بعد أيام أو أسابيع؛ صار يُعاش في اللحظة تقريباً.
تبعتها لحظات أخرى لا تُمحى في وطننا العربي. رحيل الزعماء، مباريات كأس العالم، حرب الخليج الثانية، الانتفاضة، أحداث 11 سبتمبر، إحصائيات كورونا، فوز السعودية على الأرجنتين... والكثير بينها وقبلها وبعدها... التلفزيون لم يكن ينقل الحدث فقط؛ كان يصنع ذاكرة جماعية.
لم يغيّر الوعي وحده؛ غيّر إيقاع اليوم. خلق ميقاتاً وجدانياً وتقويماً اجتماعياً حكم البيوت لعقود طويلة:
افتتاحيات الصباح، نشرات الأخبار، المسلسلات، أفلام الكرتون، البرامج الحوارية، المنوعات، المباريات.
في العالم العربي بالتحديد، وُلِد التلفزيون في زمنٍ شديد الحساسية: مرحلة بناء الدولة الحديثة. بدأ البث التجريبي في العراق عام 1956 (أول محطة عربية)، ثم لبنان 1959، مصر 1960، السعودية 1965، وتبعتها باقي الدول. كانت الشاشة جزءاً من مشروع الدولة نفسها؛ أداة للتثقيف، للحداثة، ولربط الأطراف بالمركز. كانت نشرة الأخبار تُقرأ بوقار، والبرامج التثقيفية تُقدَّم بجدّية، والبيت العربي - لأول مرة - يجتمع على مصدر موحّد للمعلومة والمعنى.
لقد أصبح التلفزيون مدرسةً غير رسمية تتسلل إلى الأفهام بلا جداول ولا امتحانات: ثقفت أجيالاً كاملة، غرست الأخلاق والقيم، رسمت معايير الأناقة والجمال. لا يمكن قراءة تاريخ التلفزيون العربي دون فهم دوره في تشكيل الوعي الوطني: هو الذي وثّق التحولات السياسية، ورافق مشاريع التنمية، وتحوّل إلى سجلّ مفتوح لأفراح الشعوب وأحزانها. هو النافذة التي جعلت البشر يرون أنفسهم، ويرون غيرهم، ويرون العالم كما لو أنهم جزء من قصة واحدة.
فالجيل الذي تربّى على التلفزيون يحمل في ذاكرته صوراً، أصواتاً، ومشاعر: موسيقى افتتاح البث، شارة المسلسل، حزم المذيع في الأخبار العاجلة، انفعال معلق المباراة، ثقافة مقدمي البرامج، أفكار الإعلانات، كلها شكلت طبقات عميقة في هوية الإنسان العربي.
سيطر التلفزيون على العالم من منتصف الخمسينيات إلى منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة تقريباً. الصحف سيطرت قرنًا، الراديو حوالي ثلاثين سنة، التلفزيون حوالي خمسين سنة عالمياً، (وفي العالم العربي سيطرته الكاملة استمرت من السبعينيات حتى منتصف العشرية الثانية من الألفية)، والإنترنت والسوشيال ميديا يسيطران منذ نحو عشرين سنة وما زالا في صعود.
لكن الحقيقة التي نغفلها: كل ما نعرفه اليوم عن «الإيقاع البصري» وعن «الحلقة» وعن «التشويق» وعن متعة «البث المباشر» وعن «الإحساس الجماعي بالحدث» تعلمناه أولاً من التلفزيون. كل تلك المنصات اليوم تقلّد – بطريقتها الباردة– الدراما التي اخترعها التلفزيون: الذروة، النهاية المفتوحة، الشخصية التي نكبر معها.
في اليوم العالمي للتلفزيون، لا نحتفي بجهاز. نحتفي بتاريخنا الوجداني والمَعرفي المشترك... لن يعود التلفزيون كما كان، لكنه سيبقى– للمرة الأولى والأخيرة – هو الذي أشعرنا وعلمنا كيف نكون جماعةً نشاهد العالم بالعين ذاتها، ونحبس أنفاسنا معاً ونتنفس في اللحظة ذاتها.
21 نوفمبر، اليوم العالمي للتلفزيون، مناسبةٌ للاحتفاء بتلك الوثبة في الوعي الإنساني. عام 1996، اجتمع قادة الإعلام في نيويورك في أول منتدى تلفزيوني عالمي، فأدركت الأمم المتحدة أن هذه الشاشة لم تعد أثاثاً منزلياً، بل وسيطاً عالمياً يعيد صياغة السياسة والدين والثقافة والذاكرة الجماعية.
قبل التلفزيون، كان الإنسان يعيش عزلته إلا ما كانت تراه عيناه، أو تسمعه أذناه، أو تتصفحه يداه. جاء التلفزيون فخلق عالماً موازياً لا يقل تأثيراً عن العالم الحقيقي، وربما تجاوزه في لحظات كثيرة: صورة تتحرك، وصوت يرافقها، وزمن يمكن التحكم في إيقاعه. للمرة الأولى في التاريخ، تجمّعت كل أدوات الحكاية في إطار واحد.
لم يعد التلفزيون ينقل الواقع؛ صار يعيد صياغته. يختار اللقطة، يحدد الزاوية، يقطع الزمن، يرتب المشاهد.
في 20 يوليو 1969، توقف العالم. عشرات الملايين جلسوا أمام شاشاتهم، يرون نيل أرمسترونغ يضع قدمه على سطح القمر –في تلك اللحظة بالذات، تقاسم البشر الدهشة نفسها، والصمت نفسه، وبريق العينين ذاته. لم يعد الحدث التاريخي يُروى بعد أيام أو أسابيع؛ صار يُعاش في اللحظة تقريباً.
تبعتها لحظات أخرى لا تُمحى في وطننا العربي. رحيل الزعماء، مباريات كأس العالم، حرب الخليج الثانية، الانتفاضة، أحداث 11 سبتمبر، إحصائيات كورونا، فوز السعودية على الأرجنتين... والكثير بينها وقبلها وبعدها... التلفزيون لم يكن ينقل الحدث فقط؛ كان يصنع ذاكرة جماعية.
لم يغيّر الوعي وحده؛ غيّر إيقاع اليوم. خلق ميقاتاً وجدانياً وتقويماً اجتماعياً حكم البيوت لعقود طويلة:
افتتاحيات الصباح، نشرات الأخبار، المسلسلات، أفلام الكرتون، البرامج الحوارية، المنوعات، المباريات.
في العالم العربي بالتحديد، وُلِد التلفزيون في زمنٍ شديد الحساسية: مرحلة بناء الدولة الحديثة. بدأ البث التجريبي في العراق عام 1956 (أول محطة عربية)، ثم لبنان 1959، مصر 1960، السعودية 1965، وتبعتها باقي الدول. كانت الشاشة جزءاً من مشروع الدولة نفسها؛ أداة للتثقيف، للحداثة، ولربط الأطراف بالمركز. كانت نشرة الأخبار تُقرأ بوقار، والبرامج التثقيفية تُقدَّم بجدّية، والبيت العربي - لأول مرة - يجتمع على مصدر موحّد للمعلومة والمعنى.
لقد أصبح التلفزيون مدرسةً غير رسمية تتسلل إلى الأفهام بلا جداول ولا امتحانات: ثقفت أجيالاً كاملة، غرست الأخلاق والقيم، رسمت معايير الأناقة والجمال. لا يمكن قراءة تاريخ التلفزيون العربي دون فهم دوره في تشكيل الوعي الوطني: هو الذي وثّق التحولات السياسية، ورافق مشاريع التنمية، وتحوّل إلى سجلّ مفتوح لأفراح الشعوب وأحزانها. هو النافذة التي جعلت البشر يرون أنفسهم، ويرون غيرهم، ويرون العالم كما لو أنهم جزء من قصة واحدة.
فالجيل الذي تربّى على التلفزيون يحمل في ذاكرته صوراً، أصواتاً، ومشاعر: موسيقى افتتاح البث، شارة المسلسل، حزم المذيع في الأخبار العاجلة، انفعال معلق المباراة، ثقافة مقدمي البرامج، أفكار الإعلانات، كلها شكلت طبقات عميقة في هوية الإنسان العربي.
سيطر التلفزيون على العالم من منتصف الخمسينيات إلى منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة تقريباً. الصحف سيطرت قرنًا، الراديو حوالي ثلاثين سنة، التلفزيون حوالي خمسين سنة عالمياً، (وفي العالم العربي سيطرته الكاملة استمرت من السبعينيات حتى منتصف العشرية الثانية من الألفية)، والإنترنت والسوشيال ميديا يسيطران منذ نحو عشرين سنة وما زالا في صعود.
لكن الحقيقة التي نغفلها: كل ما نعرفه اليوم عن «الإيقاع البصري» وعن «الحلقة» وعن «التشويق» وعن متعة «البث المباشر» وعن «الإحساس الجماعي بالحدث» تعلمناه أولاً من التلفزيون. كل تلك المنصات اليوم تقلّد – بطريقتها الباردة– الدراما التي اخترعها التلفزيون: الذروة، النهاية المفتوحة، الشخصية التي نكبر معها.
في اليوم العالمي للتلفزيون، لا نحتفي بجهاز. نحتفي بتاريخنا الوجداني والمَعرفي المشترك... لن يعود التلفزيون كما كان، لكنه سيبقى– للمرة الأولى والأخيرة – هو الذي أشعرنا وعلمنا كيف نكون جماعةً نشاهد العالم بالعين ذاتها، ونحبس أنفاسنا معاً ونتنفس في اللحظة ذاتها.