سقيا لنعماء الخيال ولا رأت عيناي ربعا من هواه محيلا
إذا أمعن الباحث النظر في هذه الحضارة البشرية، محاولًا الكشف عن عواملها الخفية، التي كانت ولا تزال، تدفع بسقيفتها العظيمة إلى الأمام، فإن هذا البحث يهديه - لا محالة - إلى اكتشاف يد جبارة، جمعت بين ألوان القوة والضعف، والتمرد ونكران الذات، تلك اليد الغريبة الأطوار، الهائلة الفعال، المستترة عن العيان، هي يد الخيال المبدعة الصناع.
ويد الخيال هذه مرنة مطاطة، قابلة للتلون والتشكل، بحسب الجيل والزمان والمكان وهى تمتد إلى كل شيء في الوجود، وهى شرهة نهمة، لا تشبع معرفة، لا ترتوي من الاستطلاع وهي وثابة طموح؛ نزاعة إلى الاتحاد بكل طريف، وإلى اقتطاف كل جديد، وإلى تسهيل ما يرى مستحيلًا، وتقريب مدى ما يظن بعيداً، ووضع ما يخال قصياً، على طرف التمام، وهي ملهمة تستمد وجودها وغذاءها من الحاجة والإلهام؛ ولها قوة على اختراق بطون الجبال الشامخة، وعلى الصعود إلى الطبقات الجوية النامية ولها اقتدار على الهبوط إلى قرارات الوديان العميقة وعلى الغوص إلى أعماق البحار، كل ذلك بأسرع من البرق؛ وأهدى من القطا، سعياً وراء سر موهوم؛ أو كشفاً لأمر غير مفهوم، وهي شاعرة معتزة بما أودعته القدرة الإلهية في كيانها من قوة حيوية فائقة، لا تستطيع معها هذه القوى المادية الماثلة في الجماد والنبات، والهواء والماء والنار، والإنسان والحيوان، أن تصادمها، أو أن توقف سيرها، أو أن تحول بينها وبين بلوغ ما احتضنته زواياها، ودب في خباياها من كنوز الأسرار.. العالم المحسوس ميدان حر فسيح لانطلاقها وارتيادها، والعقل والعلم من خدامها الأمناء، الحريصين كل الحرص على إرضاء شهواتها، وإشباع لهواتها.
وإذا حاولنا أن نستقصي مدى ما عملته هذه اليد الخيالية في سبيل تشييد صروح هذه الحضارة البشرية منذ أجيال عريقة في القدم، فإننا نكلف أنفسنا شططاً، فما أثمره الخيال للحضارة البشرية هو كل ما تباهى به هذه الحضارة من مسرات ومباهج، وعلوم وفنون، وآداب وصناعات، وابتكارات واختراعات، واستنباطات واكتشافات وقد لا نعدو صميم الصواب إذا زعمنا أن الحضارة نفسها هي ثمرة من ثمار يد الخيال، قبل أن تكون من حوك العقل أو من نسيج العلم.
لنأخذ مثلًا هذا النور الصناعي الذى غزا به أجدادنا الأول ظلمات الليل البهيم. إن هذا الضياء أثر من آثار الخيال. فإن ذياك الإنسان لما أيقن من المشاهدة المتكررة أن نور الشمس الوهاج والبدر المنير والنجم اللماع — عرضة للأفول والمحاق والخفوق، أطلق لخياله العنان سعياً وراء اقتناص نور يستعيض به عما فات ويحتمي به لما هو آت. وكان من نتيجة تجوال الخيال في آفاق الاستطلاع، أن استنبط وسائل التنوير الصناعية، فمن المصباح الزيتي إلى الشمعي إلى البترولي إلى الكهربائي ولم تقف جهود الخيال الجبارة، بالبشر عند هذا الحد من الاستضاءة، فها هو يبذل مساعي جديدة، ويدعو دعاوة حديثة طريفة إلى استمداد النور الصناعي، من النور الطبعي رأساً أمنية، جليلة رائعة، وحلم ذهبي جميل. ومن يدري؟
لعل زمن استدارتنا في الليل بنفس نور الشمس قد أظلنا؛ فبمجرد تحريكنا الزر في غرفة أو دار أو بلدا وقطر أو قارة ينتشر فيها الضياء وتنجاب عن جنباتها الظلماء.
وللخيال كذلك أثره في اتخاذ الإنسان مراكبه من الحيوان والمعادن، الأشجار فقد وجد الإنسان الأول على ظهر البسيطة ضعيفًا مجردًا من وسائل المواصلات وسرعة الانتقال. اللهم إلا بالمقدار البسيطة الذى تجود عليه رجلاه، المواصلات وسرعة الانتقال لازمتان من لوازم تحضر البشر لأن له مآرب يود إدراكها وأعداء يفر من براثنهم. ورجلاه تقصران عن الإسراع به في كل هذا فليستوح الخيال في إصلاح هذه الحال.
ولقد قرأنا كثيراً من الأدلة الناطقة على ما للخيال من فضل منموس على ازدهار أفنان الحضارة البشرية سواء في عالم العلم أو الأدب، أو الطب أو الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو السياسية أو الفن. فتدوين العلوم وحوك الآداب وترقية وسائل العاجلة وتشييد المعامل وإصدار البضائع واستيرادها وبذر الزروع المختلفة والدعوة إلى إنهاض الشعوب. وتوحيد اتجاهاتها وترقية الفنون الجميلة - كل هذه ثمرات لذيذة قدمتها يد الخيال للإنسان على أطباق التجاوب ودقة الملاحظات والاستنتاج والمقارنة والشغف بالمثل العليا في كل شيء. وهذه اللاسلكيات، الهاتفات والحاكيات كلها من ثمار فرائح الخيال الخصبة وهل جاءك نبأ الطيارة التي تسير في البر كالقطار أو السيارة وتمخر عباب البحر كالباخرة في وقت واحد إنها من عمل يد الخيال الصناع قبل أن تكون من صنع يد العمال.
1937*
*مؤرخ وكاتب وصحافي سعودي «1906 - 1983»
إذا أمعن الباحث النظر في هذه الحضارة البشرية، محاولًا الكشف عن عواملها الخفية، التي كانت ولا تزال، تدفع بسقيفتها العظيمة إلى الأمام، فإن هذا البحث يهديه - لا محالة - إلى اكتشاف يد جبارة، جمعت بين ألوان القوة والضعف، والتمرد ونكران الذات، تلك اليد الغريبة الأطوار، الهائلة الفعال، المستترة عن العيان، هي يد الخيال المبدعة الصناع.
ويد الخيال هذه مرنة مطاطة، قابلة للتلون والتشكل، بحسب الجيل والزمان والمكان وهى تمتد إلى كل شيء في الوجود، وهى شرهة نهمة، لا تشبع معرفة، لا ترتوي من الاستطلاع وهي وثابة طموح؛ نزاعة إلى الاتحاد بكل طريف، وإلى اقتطاف كل جديد، وإلى تسهيل ما يرى مستحيلًا، وتقريب مدى ما يظن بعيداً، ووضع ما يخال قصياً، على طرف التمام، وهي ملهمة تستمد وجودها وغذاءها من الحاجة والإلهام؛ ولها قوة على اختراق بطون الجبال الشامخة، وعلى الصعود إلى الطبقات الجوية النامية ولها اقتدار على الهبوط إلى قرارات الوديان العميقة وعلى الغوص إلى أعماق البحار، كل ذلك بأسرع من البرق؛ وأهدى من القطا، سعياً وراء سر موهوم؛ أو كشفاً لأمر غير مفهوم، وهي شاعرة معتزة بما أودعته القدرة الإلهية في كيانها من قوة حيوية فائقة، لا تستطيع معها هذه القوى المادية الماثلة في الجماد والنبات، والهواء والماء والنار، والإنسان والحيوان، أن تصادمها، أو أن توقف سيرها، أو أن تحول بينها وبين بلوغ ما احتضنته زواياها، ودب في خباياها من كنوز الأسرار.. العالم المحسوس ميدان حر فسيح لانطلاقها وارتيادها، والعقل والعلم من خدامها الأمناء، الحريصين كل الحرص على إرضاء شهواتها، وإشباع لهواتها.
وإذا حاولنا أن نستقصي مدى ما عملته هذه اليد الخيالية في سبيل تشييد صروح هذه الحضارة البشرية منذ أجيال عريقة في القدم، فإننا نكلف أنفسنا شططاً، فما أثمره الخيال للحضارة البشرية هو كل ما تباهى به هذه الحضارة من مسرات ومباهج، وعلوم وفنون، وآداب وصناعات، وابتكارات واختراعات، واستنباطات واكتشافات وقد لا نعدو صميم الصواب إذا زعمنا أن الحضارة نفسها هي ثمرة من ثمار يد الخيال، قبل أن تكون من حوك العقل أو من نسيج العلم.
لنأخذ مثلًا هذا النور الصناعي الذى غزا به أجدادنا الأول ظلمات الليل البهيم. إن هذا الضياء أثر من آثار الخيال. فإن ذياك الإنسان لما أيقن من المشاهدة المتكررة أن نور الشمس الوهاج والبدر المنير والنجم اللماع — عرضة للأفول والمحاق والخفوق، أطلق لخياله العنان سعياً وراء اقتناص نور يستعيض به عما فات ويحتمي به لما هو آت. وكان من نتيجة تجوال الخيال في آفاق الاستطلاع، أن استنبط وسائل التنوير الصناعية، فمن المصباح الزيتي إلى الشمعي إلى البترولي إلى الكهربائي ولم تقف جهود الخيال الجبارة، بالبشر عند هذا الحد من الاستضاءة، فها هو يبذل مساعي جديدة، ويدعو دعاوة حديثة طريفة إلى استمداد النور الصناعي، من النور الطبعي رأساً أمنية، جليلة رائعة، وحلم ذهبي جميل. ومن يدري؟
لعل زمن استدارتنا في الليل بنفس نور الشمس قد أظلنا؛ فبمجرد تحريكنا الزر في غرفة أو دار أو بلدا وقطر أو قارة ينتشر فيها الضياء وتنجاب عن جنباتها الظلماء.
وللخيال كذلك أثره في اتخاذ الإنسان مراكبه من الحيوان والمعادن، الأشجار فقد وجد الإنسان الأول على ظهر البسيطة ضعيفًا مجردًا من وسائل المواصلات وسرعة الانتقال. اللهم إلا بالمقدار البسيطة الذى تجود عليه رجلاه، المواصلات وسرعة الانتقال لازمتان من لوازم تحضر البشر لأن له مآرب يود إدراكها وأعداء يفر من براثنهم. ورجلاه تقصران عن الإسراع به في كل هذا فليستوح الخيال في إصلاح هذه الحال.
ولقد قرأنا كثيراً من الأدلة الناطقة على ما للخيال من فضل منموس على ازدهار أفنان الحضارة البشرية سواء في عالم العلم أو الأدب، أو الطب أو الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو السياسية أو الفن. فتدوين العلوم وحوك الآداب وترقية وسائل العاجلة وتشييد المعامل وإصدار البضائع واستيرادها وبذر الزروع المختلفة والدعوة إلى إنهاض الشعوب. وتوحيد اتجاهاتها وترقية الفنون الجميلة - كل هذه ثمرات لذيذة قدمتها يد الخيال للإنسان على أطباق التجاوب ودقة الملاحظات والاستنتاج والمقارنة والشغف بالمثل العليا في كل شيء. وهذه اللاسلكيات، الهاتفات والحاكيات كلها من ثمار فرائح الخيال الخصبة وهل جاءك نبأ الطيارة التي تسير في البر كالقطار أو السيارة وتمخر عباب البحر كالباخرة في وقت واحد إنها من عمل يد الخيال الصناع قبل أن تكون من صنع يد العمال.
1937*
*مؤرخ وكاتب وصحافي سعودي «1906 - 1983»