سوسن ناجي

إذا كانت اللغة أداةً للهستيريا ومادةً للجنون بحسب تعبير «ميشيل فوكو» ومقولاته، إلا أن اللغة من منظور الفيلسوفة البلغارية الفرنسية «جوليا كريستيفا» تَرصد السيولة الداخلية للا شعور الذي يتدفق من الذات عَبْر المونولوغ الداخلي لتُصبح اللغةُ في النهاية انفتاحًا للوعي.

تتمثل القوةُ الانقباضية للا وعي طبقًا لتصور جوليا كريستيفا في الدخول المُباشر من منطقة اللا وعي إلى منطقة الوعي، ثم العودة مرةً أخرى من منطقة الوعي إلى منطقة الحُلم، ومن منطقة الحُلم إلى مناطق أخرى مثل منطقة الذاكرة، ثم الخروج مرةً أخرى من الذاكرة إلى منطقة الحاضر أو إلى اللحظة الحاضرة. ومثل هذه النقلات الفجائية من منظور جوليا كريستيفا في مستويات اللغة، إنما هي بمثابة طاقة حركية إيقاعية تُوازي إيقاعَ اللا شعور، لتَعكسَ في النهاية حالاتِ تبعْثُرِ الذات أو انفجاريتها. وقد يَنجح الخطابُ الشعري في أن يُظللَ السيولةَ الداخلية للا شعور لتُصبح اللغةُ في النهاية انفتاحًا للا وعي.

وترى كريستيفا أن كثيرًا من النساء/ الكاتبات يَستطعْنَ أن يُطلقْنَ ما سمته بالقوة الانقباضية للا وعي بغية إحداثِ انفجارٍ لغوي، لأنهن يَمتلكْنَ الروابط القوية بكيانِ الأم في مرحلة ما قَبل الأوديبية. وهذه القوة الانقباضية تَتشابه مع التقلص اللا إرادي للرَحم في حالات الولادة. ويُمثل الرحمُ هنا إيقاعًا غريزيًا لا إراديًا مُناظِرًا للا وعي؛ ولا يَنتج عن هذا الإيقاع لغةٌ جديدة، وإنما هو يُشكل نَوعًا من الطاقة الحَركية التي تتسم بحالاتٍ سريعة الزوال، مثل الإيقاع الصوتي (اللغوي). بمعنىً آخر، يبدو لنا الرحم هنا وكأنه يُشكل لغةً تتميز بخصائصها المتغيرة وطاقتها الانفجارية؛ فتَقترح كريستيفا تفريغَ الدوافع الجسدية في جسدِ اللغة لتَعمل اللغةُ إذ ذاك في الجسد وتتفجر منه وبه.

كتابة تحاكي حركة الوعي

ومن الكاتبات/ القاصات المُعاصرات اللواتي حاكَيْنَ حركةَ الوعي التي نظرتْ لها الناقدة جوليا كريستيفا الكاتبة اللبنانية من أصلٍ سوري «غادة السمان» في مجموعتها القصصية «ليل الغرباء»، حيث قدمت في هذه المجموعة عددًا من تجارب الذات الأنثوية في الغربة، وذلك من خلال السرد البدائي الذي حولَ عمليةَ القص إلى مجازٍ ليُصبحَ قناعًا اجتماعيا للذات أو تجلياتٍ رمزيةً لروح البطلة الأسيرة وهي تُعاني مرارة المنفى الاختياري للذات الأنثوية فيما هي تخطو خطواتٍ جادة في اختراق المألوف من قيَمٍ أنثوية وعاداتٍ شرقية.. حين تَستبدل بيروت بباريس، ودمشق بلندن.

تصبح اللغة هي الملجأ والخلاص، ويبدو الرسم بالكلمات هو قارب النجاة للذات الكاتبة، وهي تخطو أولى خطواتها قفزًا إلى الحُلم، بل وتحريك منطقة اللا وعي لتخييل تجربة الذات. لذا كان تفريغُ لغة الجسد أحدَ أهم أطروحاتها الإبداعية الذي سطرت من خلاله أزمَتها الوجودية، وتجربَتها النوعية في الغربة عن الواقع الشرقي.. واستبداله بواقع الغرب الذي وَضَعَ الروحَ والجسدَ معًا في مأزق...!

تبدو الاستعارةُ الفنية بالنسبة إليها هي القالب الوجودي الذي اختارته لتصوير تجربة الذات في مُحاولتِها تجاوُز الميناء الشرقي كمنظومة وعقيدة وتراث للعبور ببطلاتِها إلى بحار الغرب والتجديف بشراعٍ مُغامِر لا يَفتأ أن ينكسر لتَجِدَ البطلات أنفسهن وقد وقعْنَ في حومةِ الاغتراب الفردي.

وبجوار مأزق الواقع يأتي «الآخر» ليتوج لهن الفخ الحقيقي الذي تقع فيه كل بطلة. وقد اتخذت كل واحدة منهن الرجلَ معبرًا للولوج، ومرفأ للأمان.. وعَبْر مدخل الجنس الضيق اجتاحت أحلامهن مناطق وَعرة من الرؤى التي حالت بين كل واحدة منهن والوصول إلى فردوس التحقق..!

إن ضمير المتكلم في قصة «ليلى والذئب» على سبيل المثال يبدو في حالة خوف.. لذا يتأثر المكان بهذه المشاعر؛ فكل شيء في المكان يَرتعد خوفًا: السطور تَرتجف، والحروف يَختبئ بعضها خلف بعض، حتى النور يُصاب بالإغماء، بل إن النور والحروف يتحولان إلى أنيابٍ مسعورة؛ إننا هنا بإزاء وجودٍ خائف.. حيث تَلتحم اللغةُ مع التجربة الفنية وتتحول إلى عنصرٍ من عناصرها. وإزاء هذا الخَطر، نَجِد ليلى تُنادي الآخر/ فراس: «يا فراس لو تدري، أين يدك: ربما لم تَحمني من الخوف.. ربما كانت تشاركني خوفي.. لكنني أحببتها». وهنا تبدو الرؤية المونولوغية الشعرية هي وسيلة البطلة/ ليلى الوحيدة لرؤية العالَم وتأمين حضورها الذاتي. والكاتبة هنا تَجتاح الحدودَ التقليدية الفاصِلة بين الأنواع الأدبية، فنراها في النص تَمزج بين السرد والقص والغنائية والشعر، وتَعمد إلى أن تُقدم العالَم الخارجي من خلال منظورٍ نفسي. وهذا ما يُفسر دورانَها في فلكِ المشاعر والأحاسيس أو إبقاءها على الرؤية المونولوغية الشعرية كوسيلة أساسية لرؤية العالَم.. وذلك من خلال اللغة. ولغة الرغبة هنا في مجموعة «ليل الغرباء»، لغة اللا شعور التي نظرت لها مطولًا جوليا كريستيفا، خاصة في كتابها «رغبة اللغة»، أو لغة العمليات اللا واعية في مقابل لغة الشعور والوعي والمنطق.

والجسد في هذا النص هو مَنبع الشعور بالهوية لدى جميع البطلات، ولا سيما حين يُغامِرْنَ به لمجرد الإحساس بالانتماء والأمان من الخوف.. وهو ما تحدثت عنه جوليا كريستيفا حين ذَكرتْ أن الجسدَ هو الذي يَنبع منه الشعور بالهوية.. من حيث إن الهوية الفردية لا تَنبني إلا مع التفاعُل مع نظرة الآخر.

بطلات غادة السمان

كذلك يَنعكس انشطارُ الذات المُغتربة على اللغة في قصص «ليل الغرباء».. حيث تغدو اللغةُ بحسب كريستيفا مَظهرًا لتبعثُر هذه الذات وانفصالها. فعلى سبيل المثال، وفي تلقائية مُطلقة، تَدخل بنا الذاتُ الكاتبة مناطقَ مُعتمة في لا شعور البطلة فتقدمه لنا في حالةِ سيولِة، حيث يَنكسر معها الزمن المألوف وتَختفي الحدود بين الحاضر والماضي أو بين الكينونة والتذكر.. فضلًا عن انكسار ملامح الواقع الذي تَعيشه الكاتبة في صورة تصميم مفكك لبنية الحكي، والانتقالات المفاجِئة في مستويات السرد، مثل الانتقال بالحكي من مستويات السرد إلى مستويات المونولوغ والتذكر، وغياب البناء المنطقي في أزمة السرد. كل هذا يَرصد إيقاعات التصميم المفكك لبنية الحكي ليتطابَق لا شعوريا مع إيقاع اللا وعي الذي رَصدته جوليا كريستيفا حين تحدثت عن النقلات الترددية لحركة اللا وعي للتعبير باللغة عن الجسد والروح معًا.

هكذا يغدو تشظي اللغة في النص القصصي «ليل الغرباء» مجرد مرآة عاكِسة تُحاكي تحولَ النظام الرمزي للمُجتمع من داخله. وكأن التغييرَ في اللغة والذي رصدته جوليا كريستيفا ينطوي على التغيير في الإدراك والقيَم ومن ثم يَنعكس على التصميم وأشكال المخيال والتخييل.

بهذا تَنضم بطلاتُ غادة السمان في مجموعتها «ليل الغرباء» إلى جوقة الفكر الوجودي الذي شربته أو استوعبته من النبع الغربي، خاصة حين تُعلن عن تجربة الضياع والاغتراب.. بينما هي تُعاني النتيجة الحتمية لقطيعتها.. أي قطيعة الروابط الأولية التي عبرت عنها جوليا كريستيفا لدى حديثها عن شكل العلاقات مع الأم.

على هذا، تبدو جوليا كريستيفا أشبه بعالِمة لغوية، ومُحللة نفسية، وفيلسوفة نقدية في آنٍ واحد. اشتهرت بإسهاماتِها في عِلم السيميائيات ودراسة اللغة في ارتباطها بالذات الإنسانية، وقد أثرت رؤيتُها هذه في النظرية الأدبية والخطاب النسوي. ولا يزال نَهجُها الأكثر فلسفةً متعدد التخصصات، ومُلهِمًا للباحثين في مجالات متعددة: في اللغة، وفي عِلم النفس اللغوي، وفي فلسفة النقد... بل إنها كَتبت عددًا من الروايات المُحاكية للقصص البوليسي، وجاء سردُها فيها خياليا، استعانت على رصْدِه بأدوات التحليل النفسي، الأمر الذي اقتربَ بكتاباتها الروائية من أعمال الروائي الروسي دوستوفيسكي، نظرًا لاندماج الخيال بالفلسفة وبعلم النفس في إطار النسيج السردي للقصص إجمالًا.

وشاعرية نقد جوليا كريستيفا تكمن في دمْجها الرمزي بالسيميائي؛ فالسيميائية لديها عالَمٌ مرتبطٌ بالموسيقى والشعر والإيقاع، بل إنها مجالٌ عاطفي مُرتبطٌ بالغرائز والجسد ومناطق الذاكرة في العقل. والطفل لديها يتعلم التمييز بين الذات والآخر عند دخوله مرحلة المرآة التي سبقَ أن أشار إليها «جاك لاكان»، حيث من المفترض لدى كريستيفا أن يتعلمَ الطفلُ التمييزَ بين الذات والآخر عند دخوله مرحلة المرآة (المعروفة بالرمز)، وهو أمر مساعد للطفل على تطوير شعوره بالهوية بشكلٍ مُنفصل عن الأم. وتُعرف عملية الانفصال هذه بالرفض، إذ يجب على الطفل رفض الأم والابتعاد عنها للدخول في رَحَمِ اللغة والمُجتمع. فهذا الطفل برأيها، وعلى الرغم من دخوله مرحلة الرمزية يَظل مُتأرجحًا بين السيميائية والرمزية، والدليل على هذا هو: أن الإناث على الرغم من رفضهن لشخصية الأم، يتشابهْن معها في آن واحد. وتؤكد كريستيفا أن الطريقةَ التي استبعَدَ بها الفردُ الأم كوسيلةٍ رمزية لتشكيل الهوية هي نفسها طريقة بناء المجتمعات. وهنا أيضًا تؤكد الناقدة على سوء فكرة فرْض الهوية الجماعية على الهوية الفردية، فضلًا عن أهمية النظر إلى اللغة من منظور التاريخ والتجارب النفسية والجنسية الفردية، لأنها تَظل مفهومًا مُعبرًا عن مفهوم الشمولية لكل الهويات على الرغم من تعددِها.

لا تبدو جوليا كريستيفا ناقدة أدبية، ومُحللة نفسية، وناشطة نسوية فحسب، بل روائية أدبية أيضًا لكونها أوجدت «علاقة بيْنية» بين كل تلك العلوم، بل أوجدت الروابط الموضوعية التحليلية الكاشفة لدقائق اللغة، كأصلٍ مرتبط بالهوية والجسد والذاكرة والوطن، وقَبل كل هذا أَوجدت مبدأ الروابط البيْنية بين فلسفة الذات وتاريخها وتجاربها وفرديتها وفرادتها.

*ناقدة وأستاذة جامعية من مصر

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.