بدأت أول من أمس إجراءات محاكمة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في مجلس الشيوخ، بعد ما وصف بمماطلة من قبل رئيسة مجلس النواب «نانسي بيلوسي» في إرسالها لائحة الاتهام التي مررها مجلس النواب لمجلس الشيوخ، وذلك بهدف إطالة حالة ترقب الرئيس والضغط عليه، وضمان أن يستمر موضوع المساءلة في الضمير الإعلامي والشعبي أطول مدة ممكنة، بحيث يمكن لذلك أن يؤثر سلباً عليه في مسار الجو الانتخابي للرئاسة الذي تعيشه أمريكا هذه الأيام.

من طرفهم يسعى الجمهوريون بقيادة زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ «ميتش ماكونول» إلى أن ينهي المساءلة بأسرع وقت ممكن من خلال عقد جلسات استماع تستمر لساعات طويلة نهاراً وليلاً وخلال أيام معدودة، ليضمن بذلك عدة أمور من ضمنها استغلال حالة شبه الإجماع داخل حزبه على مساندة ترمب، وبالتالي التصويت على إفشال العزل وقطع الطريق أمام منافسيه الديمقراطيين الذين يسعون من طرفهم لإطالة الجلسات، وتقديم شهود متعددين لإثبات اتهاماتهم، إلى جانب أن الجمهوريين يريدون من الإسراع بعملية المساءلة الليلية -كما يرى المراقبون- تقليل حدة ما يتم تقديمه وتداوله في حال بقيت الجلسات علنية، ولم يصوت المجلس على أن تعقد خلف الأبواب المغلقة للحد من تأثير ما سيتم تقديمه من أدلة وشهادات للرأي العام الأمريكي، الأمر الذي يمكن أن يكون له تأثير سلبي على مخرجات الانتخابات الرئاسية في نوفمبر، فطبيعة الأدلة وما سيقوله الشهود قد يغيران رأي الشعب الأمريكي تجاه الرئيس بشكل سلبي، وبالتالي الإضرار بحظوظه في الانتخابات.

وبالنظر للواقع الحالي يمكننا القول إن الرئيس ترمب وقبل الدخول في علنية المرافعات في مجلس الشيوخ لا زال يحظى بشعبية داخل حزبه ومحازبيه، ولذلك يمكن القول إن موقفه من تجاوز هذه الأزمة لا زال قوياً، فقد حقق خلال السنوات الثلاثة الأولى من إدارته وبشكل كبير ما وعد به قاعدته الانتخابية (اليمين المحافظ)، إلا أن المشكلة في ترمب من وجهة نظر منتقديه اليساريين والليبراليين بجميع أطيافهم هي أنه عمل حتى الآن فقط رئيسا لقاعدته الانتخابية وليس رئيساً لكافة الأمريكيين، وقد اتضح ذلك من خلال العديد من تغريداته وتصريحاته العلنية التي كان دائما يتحدث بها ومنذ اليوم الأول لوصوله للرئاسة، وكأنه يخاطب مؤيديه لا كافة الشعب الأمريكي، ولا أدل على ذلك من تغريدة كررها أربع مرات خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي تفاخر فيها بمعدل الرضا عنه ضمن الحزب الجمهوري، حيث شكر الـ95 % من الجمهوريين الذي يؤيدونه دون أن يشير إلى مصدر هذا الرقم، والذي يختلف عن الأرقام المنشورة من مصادر استطلاعية محايدة تضع النسبة عند 89 %، في حين لا يملك الأغلبية من رضا باقي الأمريكيين، حيث تشير الاستطلاعات إلى أن المستقلين راضون عنه بنسبة 40 % والديمقراطيين بنسبة لا تتجاوز 7 %، وبمعدل وسط وطني وصل حتى نهاية الأسبوع الماضي إلى 42.3 %.

اللافت في محاكمة الرئيس ترمب في مجلس الشيوخ أنها ستشهد قائمة مترافعين من الجانبين تضم أسماء من الوزن الثقيل، فمن جهة مجلس النواب والذي سيقوم بدور الادعاء العام الساعي لإثبات تهمتي (عرقلة العدالة وإساءة استغلال السلطة) على الرئيس تضم سبعة نواب ديمقراطيون، ستة منهم محامون في الأصل، بمن فيهم رئيس لجنة الاستخبارات «أدم شيف» ورئيس اللجنة القضائية «جاري نادلر»، وهما اللذان عُدا رأس حربة المساءلة خلال الأشهر الماضية أثناء استجوابات لجان مجلس النواب المتعلقة بقضية العزل، في حين يضم فريق الدفاع الذي سيمثل الرئيس ثلاثة من أهم المحامين في الفضاء القانوني الأمريكي، فقد اختار ترمب كلا من «كين ستار» الذي عمل خلال التسعينات الميلادية من القرن المنصرم محققاً خاصاً في قضية «وايت ووتر»، التي أثيرت إبان رئاسة الديمقراطي «بيل كلينتون»، واتهمته بالتورط في مخالفات مالية، إلى جانب خليفته في القضية «روبرت راي» الذي أصدر عام 2002 التقرير النهائي للقضية، إلى جانب أحد أهم المحامين وأكثرهم تواجداً في البرامج التلفزيونية «الن درشویتز» المحامي والمعلق القانوني الشهير وأستاذ القانون في جامعة هارفارد.

في خضم كل هذا، هناك من يرى -وترمب أولهم- أن الإعلام الذي يوصف بـ«الليبرالي» يعمل على تضليل الجمهور وشيطنة الرئيس، وعلى الرغم من أن في ذلك شيئا من الصحة، علينا أن نقول إن ترمب ليس هو أول ولن يكون آخر رئيس يتم التعامل معه بهذه الطريقة، فجزء من الحرب السياسية التي تجري في أمريكا يكون الإعلام مسرحها، فقط علينا العودة للتاريخ القريب لنستذكر مثلاً ما قامت به قناة فوكس مع الرئيس أوباما من التشكيك بمكان ولادته وأنه ليس أمريكيا، وأن الرئاسة تم اختطافها من المسلمين واليسار، والتي كان يتم تداولها ضمن الوسط اليميني من خلال إعلاميين مشهورين من أمثال «غلين بيك» و«بيل أورلي» و«شون هانيتي» وغيرهم، وهو التوجه الي ساهم بشكل كبير إلى خلق حالة من الاصطفاف لا أقول فقط الحزبي بل خلف «الزعيم» الحزبي بشكل يذكرنا بحالة ربط الوطن لا بالدستور والشعب بل بالرئيس والقائد، الأمر الذي أوصل الحالة السياسية في أمريكا اليوم إلى حالة من الاستفحال وتحديداً بعد وصول ترمب للبيت الأبيض قبل ثلاث سنوات، بحيث تغلب منهج مساندة الأشخاص على منهج مساندة المواقف، فتحولت أولويات الشعب من نظام تغليب المصالح العليا والمبادئ إلى نظام تشجيع السياسيين والزعامات.

وعلينا أن نعلم أن عداء الجمهوريين للإعلام -ونحن نتحدث هنا عن رئيس جمهوري- هو واقع قديم وليس حالة استثنائية، الفرق فقط اليوم أن ترمب وضع لذلك العداء عنوانا Fake News والذي روج له وجعله منتجاً استهلاكياً يستخدمه الجميع في داخل أمريكا وخارجها، لشيطنة الخصوم والتنصل من محاججة الأدلة والآراء المناهضة.