في الدول المتقدمة يستعينون بالموسيقى في مزارع الماشية لأنها تزيد من إدرار اللبن، ودلالة ذلك أن الماشية تطرب للموسيقي، بينما يدعو البعض إلى حرمان البشر من سماعها بحجة أنها حرام إلا إذا كانت ضربا على الدفوف.

الموسيقى لدى الماشية غذاء للروح، ولدى بعض البشر جموح وجنوح، ولو قدر لهؤلاء أن يفرضوا إرادتهم لأصبح من حق الجماهير العريضة التي تطرب للفن وتتذوقه أن تتظاهر مطالبة بالمساواة مع الماشية في حق طبيعي.

أي مفارقة هذه وفي أي زمن وعلي يد من؟

المفارقة أن هذه الدعاوى ترتفع ونحن على أعتاب عصر مذهل يتأهب فيه الإنسان لغزو الفضاء، وحرب الكواكب وإنجازات الهندسة الوراثية، والغريب أن أصحاب هذه الدعاوى لهم حظ من العلم والثقافة، وأنهم يظنون - وبعض الظن إثم- أنهم ينفذون إرادة الله الذي خلق العصافير لتشدو، والطيور لتغني، والذي أنزل القرآن آية محكمة من الفن، لغة وأسلوبا وقصصا ومواعظ وهديا. ولو شاء لأنزله مرسلا بلا موسيقى في طيات آياته، وبلا روي في نهاياتها، وبلا أنغام تنبعث من حركات الحروف وسكناتها.

إن قراء القرآن الكريم لا يجدون صعوبة في التغني بآياته، وهم حين يفعلون ذلك، يخضعون قراءاتهم للسلم الموسيقي، ويتبعون في ذلك قواعد الغناء، فيختارون مقاما دون مقام، ويدخلون مقاما على مقام، وينتقلون من مقام إلى مقام، ولا يعجزهم أن يفعلوا ذلك في أي سورة يشاؤون، من بدء القرآن إلى ختامه، بينما يعجزون ويعجز غيرهم أن يفعل مثيلا لذلك بكتاب رصين، رغم أن القرآن بالقطع أكثر رصانة، أو مقال جاد، رغم أن القرآن بالطبع أكثر جدية، أو بحث عميق، رغم أن القرآن باليقين أكثر عمقا، وما كان ذلك كله إلا آية من الله لعباده، وحجة مفحمة على كل من أنكر الموسيقى، واستنكر الغناء، وأعلن العداء للفن، وما أكثر ما سمعنا محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والمنشاوي وغيرهم، وما أكثر ما طربت النفس، واهتز الجسد، وانفعل الوجدان، ووعي العقل، ونحن نستمع منهم إلى محكم الآيات، وما أظن أن أحدأ منا قد تصور وهو يفعل هذا كله، وينفعل بذلك كله، أنه ارتكب حماقة، أو أتى إثما، أو اقترف معصية، ولا أعتقد أن أحدا منا كان يتوقع ما قرأناه من فتاوى تحرم الموسيقى إذا اهتز الجسد، وترفض التطريب إذا انفعلت النفس.

ما الذي حدث لنا في السنوات الأخيرة وكيف سعينا حثيثا إلى إنكار العقل وإهماله، وما الذي دفع البعض إلى البحث في بطون كتب التراث، سعيا وراء حديث آحاد ضعيف هنا، أو فتوى فقيه بلا سند هناك؟. وما الذي جعل الإنكار أقرب كثيرا من القبول، والتأثيم أهون كثيرا من التكريم، والعسر أيسر كثيرا من اليسر، ولماذا يحرص أبناؤنا أشد الحرص على التمسك بالقشور، والتعصب للشكليات، والتعلق بالفروع، حتى أن البعض منهم يدعي أن الاسلام قد أتى بزي، وأنه فيما يرتديه يستن بسنة الرسول الكريم، وعلمنا - وفوق كل ذي علم عليم- أن الرسول لم يأت بزي جديد، وأنه ارتدى زي المقيمين في مكة، وأغلبهم من المشركين، وأنه لم يغير زيه بعد أن تنزلت عليه الآيات البينات، وأنه ارتدى ما أهدي له من أزياء رومية أو حبشية أو فارسية لا حرج، وأنه في زيه كان يقتدي بعصره تماما كما نفعل نحن الآن، وأن أغلب الفقهاء قد أفتوا بأن سنة الرسول في الزي والعلاج خاصة بعصره، ولا تنسحب على غيره من العصور، وهو ما يمكن أن يحمل عليه الكثير من أمور الدنيا في عصره أو عصرنا.

غير أن البعض فيما يبدو يهمل ذلك كله، ولا يجد حرجا في الإفتاء بأن سماع موسيقى بيتهوفن قبل النوم حرام، تاركا إيانا نضرب كفا بكف ونحن نتساءل عن علة هذا التحريم، وعن مكان هذا الإنسان الوهمي الذي تتهيج غرائزه عند سماع بيتهوفن، ويفسد طبعه إذا أنصت لموتسارت. وما أجدرنا بتساؤل آخر عن سند تحريم ما لم يعرفه عصر الرسول من فنون مثل المسرح، ومن آلات مثل الشيللو والكمان والأورج والبيانو، وهل يا ترى تمتد فتواهم إلى كل ما هو متاح وصداح، فتنطلق القوافل الشعبية بحثا عن طيور الكناري لذبحها خوفا من الفتنة، وإلى خرير الجداول لطمرها تحسبا من الإثارة، وإلى أبواق السيارات لتدميرها تجنبا لمقدمات الزنى؟.