استيقظتُ هذا الصباح، وذهبت كالعادة كي أغسل وجهي. وفي المرآة التي أمامي ظهر لي وجه لا أعرفه!، ارتعدت فرائصي، وأشحت بوجهي عنه.

تُرى من هي صاحبته؟! بالتأكيد لست أنا. لا بد أن صاحبته امرأة ثانية غير التي أعرفها، لقد قررتْ أن تقتحم عليّ خلوتي لتنغص عليّ هدوء صباحي.

جمعت قواي وواجهتها بسؤالي: من أنتِ؟ فأجابت: أنتِ!، كلا لستِ أنا، بل أنت امرأة غريبة عني. انظري إلى عينيكِ، إلى وجهك الشاحب، إلى بشرتك، إلى شعر رأسك. بالتأكيد لستِ أنا، فأجيبي من أنتِ؟ بعد الصمت للحظات كأنها دهر، قالت: سحابة! لا بد أنك تمازحينني، ألا ترين أنني جادة؟! كيف تسمينني سحابة وأنا هنا أمامك من لحم ودم؟! أليست السحابة ناتجة عن تبخر مياه الأرض؟ أنت كذلك انبعاث عن تفاعلك مع أحداث الأرض، أجابت بكل ثقة وهدوء!

فكرت قليلا، ربما هي على حق، بعضه وليس كله!. إن كانت السحابة نتاج مشاعري واحتياجاتي، فلي أيضا روح تسيّر وتضبط هذه المشاعر والاحتياجات، إنها الروح التي بداخلي هي من يمثلني في الحقيقة، وليس الجسد واحتياجاته!.

السحابة التي تنعكس أمامي ليست سوى الجزء الظاهر من ذاتي. نعم، لديّ غرائز وشهوات وعواطف دفعتني إلى التفاعل معها، كل حسب الوقت والنسبة والحدث، الدوافع التي تبقيني على قيد الحياة من أكل وشرب، أو الدوافع التي تكون إرضاء للذات كالمتعة والارتقاء والازدهار. لكنها ليست كل كياني. ليست كلي أنا!، فالريح بداخلي توجه هذه المشاعر والغرائز، الريح هي جوهري الحقيقي، الجزء الذي يقرر سير العواطف وقوتها، ويلجمها إن لزم الأمر، الجزء الذي يقرر أيًّا من الدوافع أتبع، وأيًّا منها أؤجل، وأيًّا منها أؤخر، وأيًّا منها أتجاهل تماما، إن الريح بداخلي تساعدني على معرفة ما ليس له قيمة أو معنى، وما يستحق أن أستمتع به مثل الجمال والخير والإنصاف والتعاطف والعطاء، تساعدني على التمسك بالقيم التي أسعى كي تصبح جزءا لا يتجزأ من ذاتي، كالحق والصدق والأمانة. إنها الريح التي تفتح لي الطريق إلى أعماق ذاتي لأرى بوضوح وأصبح أكثر وعيا بما يجري بين السحابة والريح، بين الجسد والروح.

هذه هي الريح التي بداخلي، مصدر عمليات اتخاذ القرار، إنها الطاقة التي تدفعني وتحفزني لاستغلال ما أمتلكه من قوة لمواجهة الحياة.

كانت لحظات صدق وتأمل في ذاتي، توقفت فيها عن تسارع أو بطء الأحداث التي نمر بها، نظرا لغرابة الوضع وشذوذه عن الطبيعي الذي كنا نعيشه، واعتدنا عليه وهو في الحقيقة غير الطبيعي، بل هو أبعد ما يكون عما يجب أن يكون الطبيعي!. هل اكتشفت ما هو كائن بداخلي، هل اكتشفت الذرة؟!

ليس اكتشافا عظيما، ولكنه تذكرة، رسالة من الخالق -سبحانه- بأن أتوقف عن هذا السباق الذي لا ينتهي مع الوقت والحَمل والمسؤوليات، تذكرة كي أعود إلى الروح التي هجرتها للتعرف أكثر عليها، للتذكر بأننا خلقنا ونحن نمتلك بأيدينا القرار بأن نختار، أن نوجه عواطفنا -السحابة- التي تجري لتعبرنا ثم تستدير لتكرر الخطوات نفسها، وهي تعلم انشغالنا عن الروح -الرياح- التي لديها الخيار في الأصل، ولكن نسيت أو تناست أو غاب عنها أنها تمتلك هذه الميزة أو هذه النعمة!.

أرواحنا هي التي تمسك بكل خيوط المشاعر والدوافع التي تنبعث من الجسد، تمكننا من تجميع كل قوانا -إن سمحنا لها- ومشاعرنا ودوافعنا عند مواجهة أي تفاعل مع حدث أو اتخاذ قرار. الروح تعطينا أقوى سلاح أنعم به الخالق علينا، الخيار -اتخاذ القرار- من جانب يعقل ويقدر ويحسب لما بعد الآن. الحاضر والتو واللحظة، يحسب لحياة تدعى الآخرة، والجميل أننا نستطيع أن نصل إليها متى ما شئنا لكن.. نسينا.

ماذا بعد؟! إن الله -سبحانه- وضعنا في موقف لنتذكر، لنتأمل، لنعيد حساباتنا ونعيد التواصل مع أعظم قوة خلقها بداخلنا، ونحن لأسباب كثيرة عبرنا إلى كل محسوس ملموس -المؤقت- وتركنا الأبدي، الذي لا يساعدنا في هذه الحياة فقط، بل فيما بعدها من أبدية!.

هل أنظر هنا؟ أبدأ، مجرد حدث أيقظني، لم يكن سوى لحظة تأمل وحوار مع الذات، وهي دعوة لمن يعرف أن لديه الحق والقدرة على الخيار ليتأمل لا ليحاسب، بل ليكتشف تلك الذات التي ربما يظن أنه كان يعرفها.