من العبارات المحلية الدارجة عند تجدد المناسبات قولهم: «يرحم اللي ما عاد عليه»، أي رحم الله الذين لم تعد عليهم هذه المناسبة. ويقولها الناس كثيرا في الأعياد؛ يقصدون بها من سلف لهم ممن اختارهم الله لجواره؛ رحمهم ربي، وعوض أرواحهم الجنة ونعيمها؛ ومن هؤلاء الذين فقدناهم في العشر الأواخر من رمضان الماضي، وأثر فقدهم في محيط من خالطهم، وعرف قيمتهم، الراحل الغالي، الدكتور عاصم، ابن العم الوقور والعمدة الشهير، حمدان بن علي قبا الغامدي، أستاذ اللغة العربية وآدابها، وابن المدينتين المقدستين، وصاحب المآثر والمناقب المتعددة.

مقالي هذا يأتي ضمن مرثيات صادقة كثيرة، كتبها أو سيكتبها من عرف الدكتور عاصم حمدان، ولعلي أن أوفيه بعض واجبه، وآتي على بعض الروابط الوشيجة التي كانت بين الفقيد، وبين سيدي الجد السيد حسن فدعق، إمام الشافعية في المسجد الحرام، وبين سيدي الوالد السيد محمد، رحمهما الله، وبين عدد من أفراد الأسرة، أخص منهم زميليه عمي علوي، وابن عمتي محمد الجفري.

الصلات الأولى مع الدكتور عاصم، بدأت عندما كان يتردد كثيرا على المجلس العلمي للجد، بحارة الباب في مكة المكرمة، مشاركا بصوته الشجي الجميل فيه بإلقاء القصائد، ويختار منها الأبيات المناسبة للحدث، يشاركه في ذلك ابن المدينة المنورة، الأستاذ مصطفى صالح قطيم، وكان رحمه الله، كلما سنحت فرصة عن ذكرياته يقول لي، صعدت لبيت جدك، في الثمانينات، قبل 49 سنة، قاصدا طلب العلم، ولما علم أني من دياره، صلى الله عليه وسلم، احتفى بي كثيرا، وأجلسني بجانبه، وعلمني، ومجايليه من علماء مكة: «الرضا والطمأنينة والابتسامة والوسطية والاعتدال والرفق والموعظة الحسنة والسعي للخيرات والتسامح وسعة الأفق واستشراف المستقبل والحكمة والستر»، وكان يطلق عليهم لقب «أساطين العلم والمعرفة»، وسمى لي منهم: الشيخ حسن المشاط، والسيد حسن يماني، والسيد علوي مالكي، والسيد محمد أمين كتبي، والشيخ عبدالله خياط، والشيخ محمد نور سيف، والشيخ عبدالله دردوم، والشيخ عبدالله بن دهيش، والشيخ زكريا بيلا، والشيخ ياسين الفاداني، والشيخ عبدالله بن حميد، والشيخ عبدالله بصنوي، وغيرهم، رحمهم الله جميعا.

كل ما قاله لي الدكتور عاصم من سلوكيات تعلمها، ودونتها عنه بالتمام والكمال، شهد له بها كل من سنحت له فرصة التعرف عليه، وأزيد عليها تلك التي أورثتها فيه من محاسن كثيرة، ومنها السؤال عمن غاب عنه، وزيارته لهم، وتلبية دعوات أحبابه، وتفقده غير المعلن لأحوال المحتاجين منهم، وحبه لمواساتهم، مع الفرح بإنجازاتهم، والتوسط والشفاعة لمن يعرف احتياجه لها، وترفع عن الصغائر والتفاهات، مع ورع كبير، ومروءة متناهية، ومواقف نبيلة، ومتابعة لا يمكن أن تكون إلا ممن زينه خالقه بالحس الإنساني الرفيع، وحلاه بالمكارم.

الدكتور عاصم حمدان، رمز جميل، وسمعة حسنة، وسيرة مباركة، ودرس فيما يجب أن يتطلع إليه الإنسان، ليتركه في سجل ذكريات من فرقتهم عنه هذه الدنيا الفانية.. رحم الله فقيدنا الدكتور عاصم، ونفع بأولاده وأهله وأصدقائه وطلابه، والعزاء لنا جميعا فيه، أنه ترك للكل إرثا كبيرا من شهامة السابقين، وشجاعة الأولين، وشموخ غير متناه، ووجدانيات جميلة.