نعم من أجل دقائق معدودة في دائرة الضوء (fifteen minutes of fame) انقلب العالم رأسا على عقب، لقد دخلنا في عالم التفاهة، بل في حروب التفاهة، لم تكفهم التفاهات التي يبثونها ليلا ونهارا تحت مسمى الحرية الشخصية والتسلية وتزجية الوقت، ولا يكفينا أن يخرج علينا المهرجون والمهرجات يتسابقون، من سيقدم نفسه أو أفرادا من أسرته في مشاهد بهلوانية سخيفة من أجل إضحاكنا، ومع الضحك يسقط الاحترام والتعامل بجدية، بل قد يصل الأمر إلى التعدي والتنمر مع التقليد الأعمى، واشتعلت الحروب السايبرية. لقد أصبحنا نرى مقاطع نارية تقذف بين خصمين، كل منهما يحاول إيذاء الآخر، وفي خضم ذلك يجعل من نفسه كما يبدو غبيا وتافها أيضا، لنطلق عليها حرب «الفراولة» بين الإناث وحرب «الباذنجان» بين الذكور. كل هذه السباقات المسعورة من أجل ماذا؟ من أجل المال والشهرة، وإن أمكن السلطة، لا أقول إن البحث عن المال هو شر، ولكن الشر يكمن في التخلي عن القيم، أي المال في غياب القيم! أين القيم في أن أجعل من أعزائي أبطال مقاطع هزلية لكي أضحك الغرباء؟!

أمي، أبي، زوجي، زوجتي، أبنائي، أصدقائي؛ كلهم تحولوا إلى مادة تقدم على طبق من فضة مقابل قهقهة تؤدي إلى إعجاب يؤدي إلى نشر، يؤدي إلى زيادة عدد المتابعين، يؤدي إلى معلنين، يؤدي إلى مال في الحساب! أعتقد أنه من الغباء والعبث أن يحصل الناس على الشهرة بعدم القيام بأي شيء على الإطلاق، ولكن للأسف هذا الغباء ظهر وانتشر بمباركتنا وصمتنا، بل ومشاركتنا.

يقول عالم النفس إريك فروم: إن التفاهة لدى الفرد ما هي إلا محاولة للهرب، ليس من ذاته، بل من المجتمع، ماذا يعني بذلك؟ يعني أن الفرد يشعر بأنه أقل منهم، أو أنه غير مُقدّر أو غير مرئي، فأين سيجد ساحاته حتى يظهر؟ لم يعد الأمر صعبا فحتى الراعي في أقاصي البراري أو أعالي الجبال يستطيع أن يدخل وينشر، وحسب المقولة القديمة: «الكبير والصغير والمقمّط بالسرير» مكنتهم التكنولوجيا الحديثة من البث والاستقبال، لا يهم ما سيقدمه، المهم أن يجد التفاعل، ويشعر حينها بأنه موجود على خارطة الحياة، بل يعتقد فروم أيضا أن عقبات الوجود هي التفاهة، وأسوأ التفاهات هي الحديث التافه، لأنه في رأيه يشكل الإنسان على نحو ضحل وضعيف، يتعلق بظاهر الأمور فقط، وليس بأسبابها أو بما يتضمنه جوهرها، وكلما زادت الحروب والأزمات زاد انشغال الناس بالتفاهة، لأنهم يشعرون بأنه لا حول لهم ولا قوة في خضمّ الصراعات. بينما الأديب والمفكر البريطاني كولن ولسون أرجع التفاهة إلى شعور الإنسان الحديث بالدونية لأنه محاط بالناجحين، وما يشعر به داخليا هو أنه عاجز عن تحقيق ما قدموه عندما يقارن ذاته بهم، عندئذٍ يحاول الهرب من ضغط هذه المشاعر بالانشغال بالتفاهة.

نعم نجد أن الناس يرغبون في التسلية والفرار ولو لبعض الوقت من هموهم وضجرهم في حياتهم، خاصة غير الراضين عنها، فلا ضرر في إعطاء الناس ما يريدون، طبعا هذا مبدأ السوق الحرة؛ عرض وطلب! ولكن ما يتم إرساله أو بثه هو رسائل سيئة تساعد على خلق مشاهير فوريين، أي أن ما يتم استقباله في العقل الجمعي يمكّن أي شخص من أن يصبح مشهورا بضربة حظّ من خلال تغريدة أو مداخلة أو مقطع، من غير عمل جادّ أو حتى امتلاك أي موهبة معينة، وهنا بالطبع ستصل إلى الأطفال والمراهقين والشباب أيضا، ممن يشاهدون أو يتابعون، ستصلهم رسالة بأنهم لا يحتاجون إلى الدراسة بجد أو التدريب أو بناء أي من قدراتهم أو مهاراتهم من أجل كسب العيش، فذلك يحتاج إلى وقت وجهد، أما شهرة السوشيال ميديا فهي ضربة حظ، ومن ثم المتابعة في إرضاء الجمهور وتقديم ما يعجبه ويشده أو يستفزه، وبالتالي نخلق مجتمعات بسمات الأنانية الفظة، مجتمعات ترى أن تلك السلوكيات أو الأقوال طبيعية! وتبدأ وتستمر مسيرة السقوط في الهاوية، حيث يتم ـ بدرجات أكبر أو أقل ـ اتباع ما يسمى «حلم الشهرة السام» الذي يُدخل الفرد في بحث مستمر عن المزيد، ويتخلى في طريقه أو يضحي بالأشياء المهمة: الأسرة والمجتمع والقيم، وبالتالي يصبح المستقبل مظلما لا يمكن تحمله لأنه لا بيئتنا ولا علاقاتنا ولا أرواحنا ستسلم من المعاناة، ففي أسوأ حالاتها وفي أفضل حالاتها، ستخرج وسائل التواصل الاجتماعي الإنسانية من المستخدمين لتعود وتقدمها لغيرهم! والأسوأ من ذلك هو جهل التافهين الذين يصدقون أنفسهم بأنهم نافذون في كل المعارف والعلوم، والطامة الكبرى حين يؤمنون بهالة القداسة التي يرسمها لهم من حولهم ويمنع الاقتراب منهم سواء بنقد أو مراجعة، وعليها ينتفضون غضبا كلما حدث ذلك ويعتبرونه تعديا وغيرة وادعاء، ويتم الاستشهاد بهم أو إجراء المقابلات معهم على أنهم خبراء حتى ولو كان كل ما يقولونه خطأ أو قائما على الافتراء والمبالغة، المهم أنهم مع ظهورهم سوف يجلبون معهم المتابعين حتى ولو كانوا ممن يستفزون هؤلاء المتابعين، المهم أنهم أحضروهم معهم؛ أعدادا تصب ذهبا في آلة الصرافة، وهذا يكفي!

الخلاصة أن التافهين قد ربحوا المعركة، وسيطروا على مواقع التواصل الاجتماعي، بمعنى أن ثقافة التفاهة ظهرت وانتشرت بدلا من الثقافة الراقية والمفيدة، وأنا هنا أراهن على الوعي الفردي، بأن يعمل كل فرد على بناء ذاته والابتعاد عن متابعة التافهين، ومع مرور الوقت سوف يصبح هذا الوعي الفردي وعيا جمعيا، وتعود كفّة الميزان إلى التوازن الطبيعي.