تأمل، وبعد ربط الصراعات الفكرية القائمة، بنظائرها الخامدة في ظاهرها، وبعد كشف النقاب عن الوجه السياسي لبعضها، المصنوع في المطابخ الاستخباراتية المجاورة بهدف شرذمة المجتمع السعودي، ليكون الفتيل جاهزا للاشتعال في أي فرصة سانحة. بعد ذلك كله، ساءني بقاء الفجوة الكبيرة التي صنعتها السياسة، في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، بين فريقين من الأدباء والنقاد، هما: أنصار التقليد، وأنصار التجديد، في الشعر العربي.

وحين أقول: السياسة، فأنا أعنيها من جانبين: أحدهما؛ ما كان -في ظرف تاريخي ما- من انحياز رسمي إلى أحد الفريقين قبل الاحتلال العراقي للكويت، والآخر؛ الصحوة بوصفها امتدادا للعمل السياسي الحركي الماثل في الإسلام السياسي بأذرعه المختلفة، والذي كان وما يزال يشيطن الفئات الخارجة عن إطاره كلها، ومنها فئة المجددين في شكل القصيدة، بل إنه كان يتجاوز ذلك إلى التحريض عليهم، وما حادثة اقتحام فعالية نادي جدة الأدبي الثقافي عند فوز محمد الثبيتي –رحمه الله – بجائزته الشعرية، إلا دليل ساطع على وجود تحريض غير مبرر، وقد وصل الأمر –حينها- إلى إلحاق الحداثيين/ أنصار التجديد، باليهود والنصارى وأعداء الأمة الذين يدعو عليهم بعض خطباء المساجد.

لست أجد لتلك الأفعال سببا موضوعيا واضحا، سوى أنها من لوازم سحب «البساط» «الشعبوي» من تحت أقدام المثقفين المستقلين الداعين إلى التجديد الفني؛ وذلك لضمان عدم تأثيرهم في العقول، مما حتّم على مصنفيهم تبشيعهم وشيطنتهم بكل الوسائل التي لم أستطع أن أجد فيها وسيلة أخلاقية واحدة، أو أجد لها مبررا موضوعيا واحدا، سوى ما يذهب إلى عقلي عندما يشتغل «خيالي المريض». أزعم أن هذه الفجوة، لم تُردم بوعي أو فهم أو تحوّلات أو تراجعات أو اكتشافات، على الرغم من أن السنوات اللاحقة قد كشفت عن الجوهر السياسي لذلك الصراع المفتعل؛ وربما كان استمرار وجود الفجوة عائدا إلى كون أسباب الصراع ليست متعلقة بالقضية الفنية مدار الصراع، وإنما بمكاسب وامتيازات وأهداف خارج إطارها، وذلك يفسر الوصول إلى حدود الفجور في الخصومة، واستقواء أحد الطرفين بالمقدس أو السلطة، دون أن تستحق القضية ذلك كله.

كنت أظن أن الزمن كفيل بإذابة جبال الجليد، وتبديد الهراء، وردم الفجوة، إلا أن حوارات «واتسية» دارت الأسبوع الفائت، أكدت لي أن أحد طرفي الصراع يتحين فرص استعادته، ليعيد كلامه القديم، أو يختلق أشكالا جديدة من الصراع، هدفها الرئيس مصادرة كل فعل أو فكر، لا يكون له/لهم، أو لا تكون له/لهم فيه يد، أو دور، والحال هي الحال، سواء أأحسن القائمون على ذلك الفعل، أم أساؤوا؛ بمعنى أن القضية ليست تقييم الفعل أو الفكر أو الإنتاج في ذواتها، بقدر كمونها في كون الإقصاء منهجا أصيلا عند هذا الطرف، وفي وجود دور وحضور أو مصلحة للطرف المهاجم، وهي مصلحة ذات مدى بعيد، تتمحور حول الاستتباع وصناعة الولاء الشعبي. وأستثني من التمسك بهذه الأسباب السياسية الإستراتيجية، «الطيبين» الباقين على آرائهم المعارضة للتجديد ورعا وتقوى وحرصا على الأصالة.

أعود – هنا – إلى فقرة من مقال قديم، كتبته ذات يقين بزوال الصراع بين: أنصار التقليد، وأنصار التجديد، إذ كانت مدينتي الأثيرة: أبها، المدار المكاني لبعض تلك الصراعات التي استوعبنا – فيما بعد – أنها ذات جوهر فكري سياسي، ولا علاقة لها بالنقد الأدبي أو الشكل الفني أو العقيدة إلا في الظاهر.

أهم كتابين معارضين للشكل الشعري الجديد في مطلع هذا القرن الهجري كانا ذا علاقة بأبها، إذ صدر أحدهما عن ناديها الأدبي، وهو كتاب: «جناية الشعر الحر»، لأحمد فرح عقيلان –رحمه الله - سنة 1403، وكان مؤلف كتاب: «الحداثة في ميزان الإسلام»، الصادر سنة 1408، أحد ساكني أبها، وهو د. عوض القرني، فضلا عما أحدثه صدور العدد الأول من مجلة نادي أبها الأدبي: «بيادر»، سنة 1406، وكانَ يحتوي على عدد كبير من قصائد التفعيلة التي لم يألفْها الناسُ حينئذٍ، قد أحدث ردود فعلٍ عنيفة، أدّت إلى توقّف هذه الدوريّة عن الصدور ثلاث سنوات، فلم يصدر عددها الثاني إلا سنة 1409.

وبعيدا عن آثار ذلك الصراع السلبية على تطور القصيدة، وعلى الوعي، وبغض النظر عن تداعياته الخطيرة الماثلة في انقسامات ليست لها أسباب عاقلة؛ أجزم أنه لم تعد لذلك الصراع أهمية سوى دلالته التاريخية؛ لأن قصيدة التفعيلة -التي هي الحداثة في عقول المعارضين «الطيبين»- باتت أمرا واقعا، إذ تلاشى الخلاف حولها بالتدريج، بعد أن صدرت عليها آلاف الدواوين، وكُتبت على نهجها آلاف القصائد، واستقر المصطلح الدال عليها، ووصل ذوبان القضية إلى أنْ نظَم على الشكل الجديد بعضُ معارضيه الأوائل.

وعليه؛ يكون من المنطقي القول: إن هذا الصراع – بوصفه أنموذجا – لم يكن حول قضية تستدعي صراعا، وإنما كان حول «بساط» خشي الحريصون عليه أنْ يُسحب من تحت أقدامهم، فتتبدد أحلامهم السياسية التي دأبوا على أن يبدأ الطريق إليها من عقول الشعوب، قبل الحكومات.

وبالبناء على هذه النتيجة، فإن الباقين على التشبث بمعارضة التجديد الفني في الأشكال الموسيقية والصور الشعرية، ليسوا سوى مجموعة من «الطيبين» الذين اجتنبوا كبيرة قراءة القصيدة الحديثة، فعجزوا عن فهمها، وعن اكتشاف جمالياتها، ومن البدهي ألا يرى الجمال من لا يمعن النظر فيه، وهم –كما أزعم- منزهون عن الأهداف الخفية القديمة التي يصبوا إليها غارسو هذه الممانعة في عقولهم.